تصبح الحرب جزء من حياتنا اليومية، وتدخل في بنية وتكوين ما ننتجه من أدب وفنّ ورسومات، غالباً ما تكون مهمومة بالخراب والدمار والموت، تلد في أحايين أخرى سخرية لاذعة ترتبط بالألم وردود الأفعال والتعبير عن المواقف والسخط.
الثورة السورية، بما حملته من سرديات وهموم ووجع، شكّلت مادة دسمة يصلح فيها امتزاج الواقع بالخيال، وحمَلت جدرانها المهدمة رسومات وكتابات توثيقية وجدت في هذه الجدران خلفية حقيقية وفضاء واسعاً لنقل المعاناة أحياناً، ورسم الابتسامة وتجسيد المواقف، لتغدو تلك اللوحات هوية للجدران، يتوقف عندها الأهالي وتُحمل عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى العالم، أما عند رساميها فهي حالة يرتبط فيها الشغف والرغبة ومحاولة الهدوء تجاه كل قضية معاشة مع دعوة الجدران لهم لتخليدها، هكذا عبر عزيز الأسمر “رسام الركام”، كما يطلق عليه في مدينة بنش (بمحافظة إدلب) عن رسوماته التي تملأ جدران المدينة.
لم يدرس الأسمر (46 عاماً) الرسم في واحدة من الكليات، بل اعتمد على موهبة فطرية في نقل “ضجيج روحه وإيمانه بالثورة ومتابعته لأحداثها ومفاصلها” إلى لوحات جدارية (هي أي قطعة من الأعمال الفنية المرسومة أو المطبقة مباشرة على الجدار، السقف أو غيرها من الأسطح الكبيرة الدائمة. والصفة المميزة الخاصة للوحة الجدارية هي أن تدمج بانسجام العناصر المعمارية للفضاء المعين في الصورة)، تاركاً عمله السابق (في دار نشر ببيروت) ليلتحق بأصدقائه وأبناء قريته منذ بدايات الثورة السورية.
يَسخَر الأسمر من كل شيء ويحوله إلى ابتسامة، يدير ظهره معكوساً إلى الجدارية التي كتب فيها بالمقلوب أيضاً كلمة “هدنة”، وألفاظاً عامية كـ “صدقتك” ويضمنها بيوتاً وذئباً وأشياء كثيرة أخرى، في الصورة عليك أن تدير ظهرك للعالم وتقف مقلوباً كي تستقيم.
على جدار آخر يستجدي الأسمر، ساخراً أيضاً، الرئيس ترامب أن يردّ، يصوره وخامنئي وتويتر وطائرات حربية، قبل التقاط الصورة للجدارية يمزجها بأطفال صغار من أبناء المدينة، يخطر في باله أن يضمنها شيئاً من الطفولة بلهجة محلية “بعرض أختو لماوكلي ردّ”، لا شكّ أنه أوصل رسالته.
على جدار آخر شجرة أرز لبنان، جذعها من قضبان حديدية تُغيب خلفها طفلاً صغيراً، تحمل إبريقاً من الوقود تحرق به الخيام وتؤجج نيرانها، في الطرف الآخر عائلة سورية تحمل “صرة ثيابها” تحت تعبير وطن، وطائر الفينيق بلونه الأحمر، فيما تكتب الشجرة “اطردوا السوريين من لبنان”. في صورة الجدار تجسيد لعائلات ليست تملك ولو جداراً مهدماً مماثلاً في لبنان كي يغدو مأواها، يريد الأسمر أن يسجل موقفاً، حين يضيف بلغة انجليزية (Racism =عنصرية)، لأنهم ربما لا يجيدون العربية.
ثيمات الحرب وأدواتها وألوانها أيضاً تشكل رافداً حقيقياً لجداريات الأسمر “قضبان –حديد –دماء –عائلات وخيام”، تسيطر على خطوطه وألوانه، وإن اختلفت اللوحات والعبارات، وبدت في بعضها أكثر تحدياً وإصراراً، حين يصنع جذوراً للكلمات في جدارية “سوف نبقى هنا”، يقول إنه بذلك يستطيع إيصال الفكرة باختصار وبطريقة سريعة ولطيفة للآخرين أياً كان مكانهم، إضافة للتعبير عن أحاسيسه أو ما يراه وأحياناً ما يتمناه”.
جدران بنش مرسمه، يقول، وليس ذلك لأنها مدينته بل لسكنه فيها “الفكرة عادة ما تكون مستعجلة، ويجب أن أفرغها على أول جدار يدعوني إليه”، إلّا أنه رسم جداريات كثيرة في المناطق الأخرى كـ “تفتناز والهبيط وأطمه وكلي وعقربات وريف حلب الجنوبي”، مستخدماً الألوان المائية “إكرليك”.
ما يشغل بال الأسمر الابتعاد عن التكرار في جدارياته، يخاف سأم الناس كما يقول، وهناك دائماً موضوعات تفرض نفسها على الرسام، وتؤطره في نسق موضوعي لا يستطيع الإفلات منه، ويضرب الأسمر مثالاً عن الفكرة الملحة المسيطرة باستشهاد “الساروت”، لم يكن ذلك “تقليداً أو تكراراً، ولكن حين تأكد الخبر دفعتني قدمي إلى الجدار، وبدأت بالرسم، بعد ساعتين وجدت الشهيد الساروت على أحد جدراني”.
يقول الرسام سامر عمر الناصر، صاحب “مرسم زينة للأشغال اليدوية والفنون” في إدلب عن جدارية الساروت لعزيز “عندما نفقد أحداً نحاكي صورته من خلال اللوحة، تلك رمزية الشخص” ويصف عزيز بـ “المتمرس الذي استطاع مزج التعبيري بالواقعي في آن معاً”.
رسم عزيز للخوذ البيضاء والخيام والساروت ومي سكاف وحملت جدارياته حوارات ونقاشات عن مواضيع شائكة كالاغتراب والجدل بين السوريين، إضافة لجدارية “شهداء بنش” والتي بدأت منذ ثلاث سنوات وتضمنت أسماء شهداء المدينة، عند كل شهيد جديد يحمل الأسمر عدّته ليخلد اسمه، يقول إنه يشعر بالدهشة في كل مرّة يقف فيها أمام هذه الجدارية، حين يبدأ السكان بسؤاله عن مكان أسماء أبنائهم وإخوتهم.
للسرقة والحرّ وانتشار الحشرات حضور في جداريات الأسمر، يريد أن ينقل الحياة كاملة على جدران المدينة، ويُفرحه أن يرى صوره على وسائل الإعلام العربية والأجنبية، يقول إنه ينقل في لوحاته مشاعر الآخرين التي يستمدها منهم، والتي تتعشق مع شعوره الداخلي، يرسم أمامهم. يرى ابتساماتهم، ويتوقف عند ذاكرتهم وتأملاتهم.
أبو علاء (أحد أبناء المدينة اللاجئين) يصف الجداريات بـ “لوحات ستنال الخلود”. الحاج أبو محمد يقول عن جدارية الهدنة بعد قهقهة طويلة “تعبير في محله”، أما بتول (طالبة جامعية) فتقول “جميلات للغاية، لأنهن يمتلكن بصمة إبداع في الثورة السورية، التي توصل الأفكار والمقاصد بطريقة لطيفة لجميع من يشاهدها”، بينما يجتمع الأطفال حول عزيز ما إن يلمحوه ليشاركوه الرسم بالتلوين وسط سعادة تغمر المكان.
تقول أماني العلي (رسامة كوميك مع موقع حرية برس، ورسامة قصص مصورة في موقع العربي الجديد) نظرة الفنان المستقر منصفة أكثر، لذلك تتسم الرسوم ضمن المناطق المحررة بالصدق والاقتراب من الواقع، إضافة لأنها تلامس إحساس الناس، فالمكان يؤثر على الفنان بشكل مباشر ويجبره على تناول قضاياه “جداريات عزيز ليست فناً فقط، بل جزء من أهل بنش، وجزء منا نحن جميعاً”.