“على إيامنا كان يجي تمر من العراق نوع ممتاز، وكان صاحب الأرض يقدم إلنا تمر وشنينة (لبن مخلوط بالماء)، ونقعد نص ساعة على الفطور بوقت الضحى ومن بعدها نكمل حصاد للمغرب”.
بعبارات موجزة ومفردات بسيطة راح الحاج حسن أبو خالد (87عاماً) من بلدة معرتحرمة بريف إدلب الجنوبي، يستذكر أيام الحصاد الماضية، أيام شبابه أي ما يزيد عن ستين سنة ماضية، وقتها كانت العملية تتم بمعدّات يدوية، وتعتمد على القوة والخبرة، وتغيب عنها الحصادات الآلية التي لم تكن قد عرفت في المنطقة. يصنف الحاج حسن الحصاد في فئتين “حصاد باليد للكمون والعدس وخلافه، وحصاد المنجل للقمح والشعير طويل السنابل”.
وعلى خلاف الفلاح الذي يحرث الأرض بالأجرة ويضطر للانتظار حتى انتهاء الموسم لتحصيلها على شكل نسبة مما أنتجته الأرض، فإن ورشة الحصاد كانت تتقاضى أجرها بعد الانتهاء من حصاد كل قطعة أرض مباشرة، وتكون في الغالب نقوداً، كما أوضح ذلك الحاج حسن نفسه.
موسم الحصاد في ريف إدلب كان يحظى بمكانة مميزة لدى فلاحين المنطقة، فهو نتاج عمل شاق طيلة أشهر السنة تبدأ من فلاحة الأرض وبذار الحب، إلى انتظار هطول المطر وظهور براعم الزرع فوق التربة، والحصاد يعني للفلاح نقوداً جديدة ستمكنه من سد ديون الموسم الماضي من ثمن بذار وأجرة فلاح، ومصاريف شتاء طويل قضى جله دون عمل أو مصدر رزق آخر، وهذه كانت حال معظم فلاحي المنطقة، في تلك الفترة.
خالد أبو أحمد، 84عاما، رفيق الحاج حسن وابن بلدته، يصف أيام الحصاد في تلك الفترة بقوله: “كانت كما العرس، جميع أبناء البلدة يخرجون إلى الأراضي سوية، فلا تكاد تجد في منازل القرية إلا الشيوخ الطاعنين في السن ممن لا يقدرون على الحصاد”.
يتابع أبو أحمد كما كنا نحتفل بمن يفوز بمرتبة “الطارود” (وهو أحد عمال الحصاد يتميز بسرعته أثناء الحصاد، فيسبق زملاءه في اليوم الأول). “كانت مسابقة سنوية” يقول أبو أحمد خالد، يشبهها بسباق فرسين أصيلتين والرهان عليهما، كذلك كانت تتم المفاخرة بوجود “طارود” ضمن ورشة فلان يستطيع الفوز على بقية ورش الحصاد الأخرى، و”صاحبي الحاج حسن واحد من طواريد البلدة المعدودين”.
كلمات أبي خالد أيقظت ذكريات الشباب عند رفيقه الحاج حسن، فراح يستذكر أيام حصاده في بلدة “الخوين” التي كانت تستقطب ورشات حصاد من مختلف المناطق لاتساع رقعة أراضيها الزراعية وانبساطها، ما يستدعي أيد عاملة كثيرة، تأتي من البلدات الأخرى.
تعود بالحاج حسن مخيلته لتلك الأيام التي كان يتلقى فيها الأعطيات والتكريم من قبل أصحاب الأراضي بمجرد فوزه بمرتبة الطارود، يتحدث عنها قائلاً “كانت زغاريد النسوة معنا في الفريق تملأ الفضاء لحظة وصولي لنهاية خط الحصاد أولاً، ويوزع صاحب الأرض الهريسة، ويعطيني أجرة زيادة عن أقراني مقدارها ستة ليرات سورية في اليوم، هذا عدا عن هدية ككلابية أو ما شابهها في نهاية الموسم”.
كما أن صاحب الأرض كان يجلب فرساً أصيلة فيُركب الطارود عليها، ويطوف به في شوارع البلدة وسط زغاريد النسوة و “هنهوناتهن” (نوع من الغناء الموروث المختص بالنساء الريفيات يغنى في الأعراس والاحتفالات تبدأه المؤدية بعبارة “ها هو”). بحسب ما ذكره أبو خالد.
مرتبة الطارود لم تكن حكراً على الرجال فقط بل شاركت فيها النساء أيضاً، فهن كن يشاركن الرجل كل أعمال الزراعة في تلك الفترة، وبعضهن كان ينافس الرجال ويفزن عليه أحياناً، فيصبحن “طارودات كما الرجال”.
“طاقية من الحرير الطبيعي، هي أغلى هدية حصلت عليها نتيجة فوزي بمرتبة طارود ذاك العام” يقول الحاج حسن، لم تكن الهدية من صاحب الأرض هذه المرة، بل من فتاة كانت تحصد بجانبه وتنافسه للوصول لنهاية “الأمّان” (خطين من الزرع يستلمهما الحاصد في كل مرة). يتابع الحاج حسن سرد ذكرى ذاك اليوم بالقول ” كنت منهمكاً بالحصاد، وخلفي صوت يخاطبني، بيع -بيع، أي تخلى عن أمّان حصادك لي فإني سأسبقك لنهاية الخط، التفت إلى الوراء، كان صاحب الصوت فتاة من قرية مجاورة لبلدتنا، تسابقني على الفوز”، ما إن وصلت نهاية خط الحصاد وفزت بالسباق، يتابع الحاج حسن، حتى علت زغاريدها خلفي وتقدمت مني بكل جرأة وقالت لي جهارة “سأتزوجك فقد أثرت إعجابي بطريقتك في الحصاد”.
تبادلنا الإعجاب وفي نهاية الموسم طلبت يدها للزواج إلا أن والدها رفض تزويجي بها، يكمل الحاج حسن، فودعتني والدموع في عينيها وأهدتني طاقية نسجتها لي خصيصاً من الحرير الطبيعي، وطلبت مني إخفاءها تحت ثيابي. “ما زلت أحتفظ بتلك الطاقية في صرافة المنزل، فهي تحمل ذكريات زمن جميل”.
مشقة العمل بالزراعة وانعدام الأدوات الحديثة والظروف المناخية والمعاشية القاسية التي رافقت الفلاحين في ذلك الزمن لم تمنعهم من تحويل المواسم كـ “الحصاد والقطاف والدراسة والرجاد” إلى مناسبات للفرح والبسمة والغناء، وأحياناً الدبكة، ولعلّ أهمها “الحب” الذي ينشأ بين “الطواريد والقاطفين”.