تكورت على نفسي في الفراش ودسست رأسي تحت الوسادة حين أيقظ نومي القلق صوت يشبه ما اعتدته خلال الأيام الأخيرة التي قضيتها في مدينة كفرنبل خلال استهدافها بالبراميل المتفجرة، الصوت بدا قريباً “أردت الموت دافئاً” قلت في نفسي قبل أن يلهج لساني بالشهادة، لأتذكر أني الآن في مكان آخر، تحسست جسدي وأنا أسمع الصوت يبتعد بحركة متواترة، “أنا الآن في إدلب والصوت كان لما يطلق عليه السكان الطريزينة”.
“الذي تقرصه الأفعى يخاف من جرّة الحبل”، ركنت للمثل الذي أسعفتني به الذاكرة، فالرّعب الذي أخذ مكانه في قلبي كان حالة طبيعية أردت إخفاءها عن عائلتي، إلّا أن نظرة واحدة في وجوههم كانت تكفي لحكاية المشهد مكرراً داخل كل منا، ارتديت ثيابي لأهرب وأغيب في تفاصيل الحارة الشعبية التي اختارتني للسكن فيها، في الوقت الذي حاول فيه كل فرد من العائلة إشغال نفسه بحدث آخر يخفف وطأة “صوت الموت” العالق في أذهاننا.
الجدران المتلاصقة لمنازل حارة الجوهري في إدلب، سكني الجديد، أرغمتني على مدّ ذراعي بحركة طفولية لتلمسها، كانت تبدو وكأنها تتعانق، قلت إن الأماكن لا تخضع لسطوة المنطق، ما زالت حتى الآن ملتحمة ومتماسكة، بينما توزعنا نحن على جغرافيا العالم.
لا تمرّ الحافلات والسيارات الخاصة في حارة الجواهري، أزقتها أضيق من أن تخترقها الحداثة، وهو ما دفع معظم الأهالي لاقتناء “الطريزينات” في تنقلهم، يتوسطها زقاق رئيسي يمتد على طول مئتي خطوة عددتها وأنا أحاول التزام مسافة واحدة في كل خطوة، يتخلله أربعة أزقة فرعية كل منها يأخذك إلى خارج حارة الجوهري، ابتسمت للخيارات التي تمثل الجهات الأربع، نحن لم نكن نملك سوى جهة واحدة خلال حياتنا السابقة، وسألت نفسي لماذا لا يملك الإنسان (أربعة أيدي للدلالة على الجهات) فاستخدمت ظلي الذي ارتسم على جدران المنازل لإكمال البوصلة، الغبار لا يقع على الأرض في حارة الجوهري، فكل بوصة مشغولة، حالها حال الحارات الشعبية والأزقة القديمة في المدن السورية، لا مساحات زائدة عن الحاجة عند الفقراء.
جهلي بالجهات أقعدني عن معرفة اتجاه الأبنية الحديثة التي بدأت بالاقتراب من حارة الجوهري، لعلها الجهة الغربية، قلت في نفسي لمعرفة قديمة اكتسبتها من حياتي في المدن السورية، “الغرب دوماً مصدر الحداثة والأبنية الجديدة، الشرق حظ الفقراء والتاريخ”.
كأنها بناء منسوخ على “آلة فوتو كوبي”، معظم بيوت الحي قديمة الطراز وبأشكال متشابهة، كأن بانيها معمار واحد أنشأها على طابقين يتوسطهما باحة سماوية محاطة بغرف طينية قديمة بسماكة جدران تزيد عن ستين سنتيمتراً، يستغلها أصحاب البيوت لصناعة “خرستانات وخورنقات” تضم الجزء الأكبر من أمتعة المنزل والمونة.
بالقرب من مسجد الحي الذي يحمل اسم “الجوهري”، والذي أعطى للحي اسمه، تقابلك عدد من “الجلّاسات –مساطب” المتوزعة على طرفي الزقاق، يستريح فيها أهالي الحي ويتبادل المسنون عليها الأخبار والحكايات، وفي الجهة المقابلة “حمام الهاشمي”، تقول اللوحة المعلقة على بابه إن بانيه “هاشم المعلم سنة 1882م”، يحكي الأهالي أنه كان أحد أشهر حمامات المدينة قبل أن يغلق أبوابه بوفاة صاحبه في تسعينيات القرن الماضي.
مئذنة الحي القديمة تطلّ عليك بارتفاعها “القصير”، وتبتعد عنك مجرد ابتعادك قليلاً عن المكان، وللمسجد باب صغير ينظم دور الداخلين، إذ لا يسمح بالتزاحم، واحداً واحداً يسمح لنا بالولوج إلى داخله، “يعرف بانيه أننا فوضويون”، قلت وأنا أحاول أن أخمن ما كان يدور في باله عند اختيار باب صغير لمسجد عكس الطراز العمراني السوري والذي غالباً ما يعتمد فيه على أبواب واسعة ومتعددة في المساجد.
يقودك الباب لباحة سماوية تحيط بها غرف المسجد من كل جانب لتشكل صندوقا مغلقاً، فيمنحك المكان روحانية جديدة تختلف عن المساجد الحديثة المزينة بالرخام والأنوار. في صدر البناء يتموضع القسم الأساسي من المسجد مزيناً بقناطر محمولة على أعمدة ضخمة صنعت من الحجارة المغمسة بالطين، استمد المسجد اسمه من الشيخ علي الجوهري أحد أعمدة العلم في إدلب والذي قصدها من بغداد في منتصف القرن الثامن عشر لينهل العلم من مشايخها ثم يتحول مع تقدم السنين إلى مفتي المدينة ليأخذ الجامع اسمه ويُنسى اسمه القديم “جامع مكي”.
ليس ببعيد عن المسجد تتربع فوق الزقاق غرفة ارتكزت على جدران منزلين متقابلين، تشعرك وكأنك تعبر ضمن نفق، تذكرك تلك الغرف بالمقولة الشامية “عيرني حيطك”، كانت تلك الغرفة مع رفيقيها الحمام والمسجد حرّاس الحي الذين منعوا الطريق الرئيسي المؤدي إلى السوق من المرور فيه.
دكاكين السمانة تنتشر في الحي، تبدو أكثر مهن سكانه، بينما تشكل “الطريزينة” مصدر دخل لباقي العائلات التي تعتمد عليها في نقل الخضار وبيعها صباحاً، وتجارة “الخردوات والأدوات العتيقة والبلاستيك” مساء.
يتعرج زقاق الحي بين المنازل، ويزداد ضيقاً بشكل تدريجي قبل أن يفضي بك إلى ساحة عامة تنقلك إلى سوق المدينة، هناك عالم آخر على بعد خطوات، ضجيج وأبنية طابقية وحافلات متنوعة وغبار ودخان، وكأنك خرجت للتو من نفق في الذاكرة.
في طريق العودة نسيت خوفي من صوت “الطريزينة” وأنا التصق بالجدار أمامي كي أسمح لها بالمرور، وأنا أشم رائحة البنزين الصادر عن محركها المصنع محلياً ممزوجاً برائحة الجدران العتيقة.