بألوانه الحمراء المتدرجة من الوردي وحتى الخمري والأسود يدخل موسم قطاف الكرز قرى جبل الزاوية في ريف إدلب بمصاعب تشبه أكثر ألوانه قتامة، بعد أن هجرت آلاف العائلات حقولها تاركة مواسمها للطيور، وفي أحسن الأحوال تضمينها لمن يقوم بقطافها وفق نسبة متفق عليها، لا تفي المتضمن حقه ولا تغطي أكلاف العناية بالأشجار.
تراجعت مساحة الأراضي المزروعة بنوعي الكرز “الحلو” كان يغطي ما يقارب خمسين ألف دونم من المحافظة، و”الحامض –الوشنا” وتتجاوز عدد أشجاره سبعمائة ألف شجرة بحسب إحصائيات مديرية الزراعة في إدلب، والتي كانت تشكل النسبة الأكبر من الأراضي الزراعية السورية بهذا النوع من الأشجار ما جعلها تحتل المرتبة الأولى عربياً والثامنة عالمياً بحسب منظمة الأغذية والتنمية الزراعية (الفاو –FAO)، بمعدل انتاج يقدر بـ (78) ألف طن، ويعادل 4% من الإنتاج العالمي.
وتعود أسباب هذا التراجع، وخاصة في السنوات الأخيرة، إلى ظروف الحرب ونزوح عشرات الآلاف من المزارعين من قراهم، ما تسبب بإهمال الأراضي الزراعية وخاصة أشجار الكرز التي تحتاج لعناية خاصة، وتشتهر بعمرها القصير وحاجتها للتجديد والتقليم المستمر، إضافة لتعرض آلاف الأشجار لليباس نتيجة هذا الإهمال والظروف المناخية السيئة وانتشار الآفات والحشرات وأهمها (حفار الساق –Capnodis) التي تهاجم يرقاتها الأشجار الضعيفة بمنطقة تاج الشجرة وتتغذى على طبقة اللحاء والخشب، ناهيك عن صعوبة القطاف والتخزين والتصدير، ما أسهم في انخفاض أسعار الكرز ولجوء الفلاحين إلى استبدال أشجاره بأخرى أكثر مقاومة للأمراض والظروف المناخية ولا تحتاج مواسمها للتبريد خلال عملية التخزين كـ “المحلب والتين”.
وشجرة الكرز من جنس الخوخ الفصيلة الوردية وتنتشر بنوعيها في جبل الزاوية الكرز الحلو ويطلق عليه الأهالي عدة مسميات بحسب نوعه مثل: الربعي وأبو حز وأبو جلدة والطلياني والتركي القاسي والفرعوني وأبو بوز وأبو طويل وأبو قصير، والنوع الثاني هوالكرز الحامض المسمى بـ “الوشنا”.
أحمد الخطيب (مزارع من قرية مرعيان في جبل الزاوية) قال إن معظم مواسم هذا العام منخفضة إذا ما قارناها بالسنوات السابقة مثل شجر المحلب والكرز والمشمش، واصفاً أسعارها بـ “المتدنية أيضاً” مقابل تعب الفلاح وجهده طوال العام، فسعر الكيلو الواحد من الكرز بالجملة يتراوح بين 230 إلى 260ليرة. يبيع سكان المنطقة الموسم للتجار في سوق كفرحايا القريب.
“يقطفون الكرز على دمهم” يصف الخطيب حال السكان في المنطقة، إذ لا تخلو ورشة عمال القطاف من “القبضات اللاسلكية” التي يراقبون من خلالها حركة الطيران تجنباً للقصف الذي يطال المنطقة، يختبئون في كل مرة تحت الأشجار أو خلف الصخور إن وُجدت، هي أشبه بـ “معركة كرّ وفرّ” يختصر الخطيب المشهد.
أكثر من 90% من سكان بعض القرى في جبل الزاوية تركوا منازلهم وحقولهم وتوجهوا إلى مناطق أكثر أمناً، يقول الخطيب، وهو ما دفع بعضهم لترك “ثماره على الشجر” أو تضمينه لمن بقي في القرية، (غالباً ما تكون النسبة مناصفة، أو بواقع ثلثين للمتضمن وثلث لمالك الأرض”، وهو حال الأهالي في قرية “احسم بريف إدلب” التي أعلنت “منكوبة” من قبل مجلسها المحلي بعد استهدافها المتواصل خلال الأسابيع الماضية من قبل طائرات الأسد وروسيا.
خالدية الموسى من ناحية احسم (نازحة حالياً في مدينة إدلب) تقول إنها استغلت هدوء القصف على القرية لقطاف موسم الكرز في الأراضي التي يمتلكونها، والذي ما لبث أن عاود بكثافة أكبر، فاضطرت لترك “الكرز على أمه” والخروج إلى مكان نزوحها في إدلب، خاصة وأن معظم القرى المحيطة بالناحية خالية من سكانها، وتغيب عنها معظم الحاجيات الأساسية كالأطعمة والمحروقات.
تبدي خالدية يأسها من إمكانية جني المحصول الذي تحمّلت أعباءه وتكاليفه والعناية به، تقول إنها لن تتمكن حتى من صناعة “مربى الكرز والزبيب والعصير” الذي اعتاد أطفالها وجوده في كل عام.
أم منير من قرية “بزابور” في ريف إدلب لا يشغلها القطاف بقدر إهمال الأشجار، تقول إن عمر أشجار الكرز تناقص حتى خمس سنوات، بعد أن كانت الشجرة تعطي ما يقارب (15 -20) كيلو غراماً لما يزيد عن خمس عشرة سنة، فالكرز يحتاج إلى عناية فائقة وتقليم للأغصان من الأعلى، وتشرح “كلما ازداد نمو الشجرة نحو الأعلى نقص عمرها”، كذلك حراثة الأرض ورش المبيدات الحشرية، كل ذلك لم يعد متاحاً بسبب القصف وغلاء الأسعار وانخفاض سعر الكرز “الذي اضطرت أم منير لقطافه قبل نضوجه مستغلة هدوء القصف وتجنباً لإصابته بالآفات”.
اقتصر بيع الكرز على الأسواق المحلية نتيجة إغلاق المعابر وصعوبة الوصول إلى الأراضي، وكذلك غياب الكهرباء، سابقاً كان الكرز في أرضها، خاصة ما أسمته بذي الجلدة القاسية” يصدر إلى حلب واللاذقية عبر البرادات.
بعيدا عن موسم قطاف الكرز المتعثر، تستشير أم إبراهيم الوافدة من قرية “تحتايا” إلى جبل الزاوية، جارتها عن مقادير صناعة مربى الكرز الذي تصنعه للمرة الأولى، تقول إنها تساعد زوجها ضمن ورشة لقطاف الكرز غير آبهة بالقصف، فـ “لقمة العيش بلون الكرز”.