“الراجل ده كان سفاح. دمر مدينة كاملة وقتل آلاف عشان يفضل في الحكم. اهو مات وغار في ستين داهية”.
أتذكر وأنا اقرأ الرواية كلام أبي الذي قاله عن حافظ الأسد في مناسبات عديدة. كنت أنا وأخي أطفالاً، لكن لغة أبي الواثقة وإعادته شبه النصية للكلام ظلت ترافقني سنوات طويلة.
اقرأ الآن رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” للروائي السوري خالد خليفة للمرة الثانية، بين المرتين تغيرت أشياء كثيرة. تغيرت سوريا، تغيرت أنا وتغير أبي بلا رجعة.
في طفولتي، لم أكن أستوعب ما يقوله أبي عن الأسد وحكمه. أتساءل كيف يدمر حاكمٌ مدينة كاملة من أجل الاستمرار في السلطة؟ أثناء قراءتي للرواية يراودني كلام أبي وأستعيد سذاجة الأطفال المعتادة، لأقول أغواني أبي بالسياسة ونجا هو منها.
الراوي –الحزب
الراوي هنا هو أحد أعضاء العائلة الحلبية، لا يحتاج إلى اسم. يكفي لنا أن نعرف أنه مولود في نفس يوم انقلاب البعث، ذاك التاريخ الذي يعرفه الجميع.
شعرت أن شخصية الراوي تمتزج مع الحزب نفسه. هو بلا اسم لأن الجميع يعرفه، كثيف الحضور يسيطر على كل تفاصيل الرواية ويُحرك أبطالها بحرص. تحَكّم الراوي في الحركة داخل الرواية كما تحكم البعث في مصائر السوريين لأكثر من خمسين عاماً. يعرف كل شيء عن أبطاله وحكاياتهم، يحضر في كل وقت متسبباً بنقص الأوكسجين الذي تشتكي منه الأم طوال الرواية حتى لَنظن أنه أمر معتاد. نقُص الأوكسجين وحل محله غبار الفروع الأمنية وصورة “الأب القائد”.
إعادة اختراع الماضي لتحمّل الحاضر
يستدعي خليفة الماضي بصورة واضحة للهروب من عفونة وتدهور الحاضر. يعيش الأبطال في أزمنة مختلفة اختاروها كي يستطيعوا مواصلة الحياة.
فابتهال، التي تعيش في الماضي العثماني والمولعة بتقاليد الحياة فيه وأزيائه حتى تقاليد الزواج، تحلم بأن تصبح زوجة لأحد السلاطين في زمن سيطر عليه “الريفيون” الذين تبغضهم. تنسج زمنها الخاص بها على أمل النجاة من الواقع بصورة هزلية مثيرة للضحك في أحيان كثيرة.
أما السيدة ماري عبد النور (أم جان) فتنسج في غرفتها التي لا تريد الخروج منها زمن الاستقلال. تتحسر على زوجها وأصدقائه وعلى زمن كانت تتحدث فيه الطبقة الوسطى الحلبية الفرنسية بطلاقة. تبدو سعيدة لإصابتها بالعمى حتى لا ترى نهاية مدينتها أمام عينيها.
هل كان هذا الماضي أو ذاك ذهبياً؟ أم أننا نخترع ذلك كي لا نصاب بجنون الحاضر؟ فبالرغم من محاولات الأبطال المتكررة يطغى الحاضر في النهاية، يدخل في تشكيلنا لماضينا الذي نبتغيه حاضراً كحلم يقظة يأكل قلوب الشخصيات مع مرور الصفحات.
أما الأم، التي تكره البعث كما لم تكره أحداً مثله، أنهت زمنها في اللحظة التي هرب فيها زوجها من جحيم الأسد. تتحول مع مرور الصفحات إلى “فرع أمني” صغير يحاول التحكم بمصائر كل الأسرة. تحاول أن تبعد أولادها عن” الريفيين والغوغاء” ظناً منها أنها تتحدى البعث بتشكيل صورة مثالية عن عائلة لم تتلوث بالغبار الأسدي.
الأم ضحية البعث وضحية أوهامها التي لم يتحملها أولادها وكرهوها أكثر من كرههم للأسد نفسه. يصيبها هذيان نقص الأوكسجين وانهيار العائلة حتى لحظة موتها.
صورة الإسلامي المعتادة
اختار خليفة صورة شديدة النمطية للإسلاميين في الرواية. فمرة يكون المتحول للفكر الإسلامي يائساً من حياته، باحثاً عن معنى لها فيجرب حظه مع الجهاد، ومرة أخرى بشخصية التائبة التي تستعيد روحها بالعبادة. هذه صورة اعتدت رؤيتها في الكثير من الكتابات الأدبية العربية. يتعامل الكتاب مع الدين من منظور “الأفيون” الذي يخدر متعاطيه ثم يتركه بعد الشعور بالملل.
يُغفل الكاتب الأسباب التاريخية لصعود الحركة الإسلامية في المنطقة العربية في السبعينيات والثمانينيات وخاصة في سوريا والصراع الطويل مع نظام الأسد. يكتفي بصورة نمطية وتكميلية لإثبات الحضور فقط.
أبطال تبحث عن الحرية داخل النص
بحث أبطال الرواية عن حريتهم التي يستحوذ عليها ويؤممها “الأب القائد”. محاولات متكررة عن طريق السفر والحب والجموح في التجارب الجنسية. لكن، قُمعت الشخصيات عن طريق السرد أيضاً.
شعرت أثناء قراءتي أن الشخصيات تُخنق من الكاتب، يوجهها بشكل مبالغ فيه ويتحكم بمصيرها لخدمة فكرته الرئيسية بأن لا حياة ولا أوكسجين تحت حكم البعث. يبدأ أحد الأبطال حكاية محكوم عليها بالفشل والانهيار منذ البداية. كان ينقص الشخصيات أن تكون أكثر طبيعية مما كانت عليه في الرواية. قد يخدم ذلك الجو “الكابوسي” الذي فرضه خليفة منذ اللحظة الأولى كأنه يقول لنا “لا أحد حرّ هنا، لا المدينة ولا أبطال روايتي ولا حتى أنا!”
هل يفلح الخلاص الفردي في إنقاذ صاحبه؟
هرب الأب الذي لم يحتمل التغيرات التي أحدثها البعث في المجتمع. سافر إلى الولايات المتحدة تاركاً زوجته وأولاده يواجهون مصيرهم الذي يتحكم فيه الأسد. لم نعرف أي شيء عن الأب منذ هروبه. هل أنقذ الرجل نفسه بذلك الفعل؟ هل أصبحت حياته أفضل بهذا القرار؟ يُجاوب كل منا على هذا السؤال بطريقته، وتحاول الشعوب الإجابة أيضاً.
أبي الذي ظل مؤيداً طوال حياته للديمقراطية على استحياء أصبح يكره الثورات. يلعن في كل مناسبة “الأحداث” التي غيّرت ولَديه، يُفّضل “الأمر الواقع” عن المجهول الذي يخاف منه. تغير أبي للأبد، والسوريون أيضاً تغيروا بلا رجعة منذ ثورتهم التي كشفت وقاحة وظلم العالم الذي نعيشه. تتغير الشعوب كما الآباء، هذه هي الحياة!
عمر هشام