خلافاً لما اعتاد عليه الآباء بتلقين أطفالهم البعد عن السياسة في سوريا منذ الصغر، خوفاً من انزلاق ألسنتهم بكلمة لا يحمد عقباها، كان الطقس اليومي والذي نتقاضى عليه نقوداً كافية لشراء بعض “المطعم أو البوظة” من والدي معرفتنا بأسماء بعض الشخصيات السياسية، سواء السورية منها أو الخارجية، تلك ميزة كنت أشعر بجدواها بين أقراني وأعيد طرحها كأسئلة عليهم، غالباً ما كنت أفوز عليهم ونادراً ما شعرت بطعم الخسارة، إلّا أني وعندما كبرت شعرت بنقص مخيف في الوعي لم تفلح معه جميع المحاولات باستدراك ما فات.
لا أستطيع تحديد بداية حقيقية لانتشار جزء من الاهتمام السياسي عند اليافعين السوريين بزمن محدد، إلّا أن اصطدامهم الأول مع تلك المعرفة لاحظتها مع بداية حرب العراق، وقبلها كانت مع الانتفاضة الفلسطينية ضد العدو “الإسرائيلي”، وقتها كانت أحاديث وسير ونقاشات تدور بين أبناء جيلي، يمكن تسميتها بـ “الفطرية”، وبالعودة إليها أشعر بوجوب الضحك لتلك القناعات التي لُقّناها على شكل شعارات دون تأريخ ومحاكاة سياسية أو تحليل لها، كنا نكتفي بالدفاع عن موقف واحد، وكنا معاً جميعاً نسير في طريق واحد دون معارضة من أحد، لتتسم تلك “الحكايات” بتعزيز الفكرة لا مناقشتها. دائماً كان هناك خط مغاير إلّا أنني لم أكن قد حظيت وقتها بمعرفة أحد شخوصه، والتعميم بافتراض خطئه أعيده لما كان يدور بيني وبين أصدقائي وأقاربي من أحاديث.
الخلاف حول شخصية صدام حسين شكل حالة من بداية السجالات، إن صحّت التسمية، ولعلّ موقف الحكومة السورية وقتها من الشخصية وغموضها في اتخاذ رأي واضح بالوقوف مع أو ضد شخصية الرجل هو من أباح وأعطى تلك المساحة من الحرية في الخلاف بالرأي.
صدام نفسه الذي كان يمثل حالة متفق عليها، ظاهرياً، في ثمانينات القرن الماضي، بالعدوّ لسوريا والذي كان مسؤولاً وبشكل مباشر عن التفجيرات وانعدام الاستقرار، بحسب الخطاب الحكومي الذي رددناه لسنوات، هو أيضاً من فتح باباً للتقارب السوري الأمريكي عبر مشاركة الجيش السوري وقتها في المعركة ضده إبان احتلال الكويت، ذاته من فتحت أبواب “الجهاد” بيسر للشباب السوريين للحرب في العراق ضد الاحتلال الأمريكي، إذ باتت صوره ومقاطع الفيديو المنتشرة له مطلباً شبابياً مباحاً، يضاف إلى ذلك ما حدث خلال محكمته، وصولاً لتسميته بـ “فخر وصقر وأسد العرب والسنة”.
للحظة غابت كل الحكايات عن التفجيرات وضلوع العراق بدعمها ودعم حركة الإخوان المسلمين وحركة فتح والتي كانت على خلاف مع الأسد الأب، لتحلّ مكانها صورة أكثر اعتدالاً وأقل تحفظاً، وهو ما يعني غياب التحليل والتفاعل السياسي مع الأحداث إلّا من خلال الخطاب الرسمي ومحدداته وما يسمح به، قلّة من عادوا إلى تاريخ العراق بمعزل عن سوريا وأمريكا، ومحاكمة رئيسها من خلال ما حدث في العراق نفسه، بوصفه، ككل الحكام العرب، ديكتاتوراً أو ظالماً أو جيداً أو ديمقراطياً، ليس مهماً التوصيف هنا إن كان يستند إلى حقائق ومعطيات بعيداً عن الانجراف العاطفي والتزام ما يملى علينا قوله لا ما يصدر عن وعينا نحن.
المفترق الآخر الذي وجد حالة خلافية بشكل أقل، كان حرب تموز في لبنان، حزب الله وخيار المقاومة، الخطاب الحكومي كان واضحاً ولذلك كان علينا وفي كل مناسبة، وإن كنا متفقين على أن “إسرائيل عدونا الدائم”، أن نكون مع خيار المقاومة دون مخالفة هذه المرة ستودي بأصحابها إلى الاعتقال، أو في أحسن الظروف للاتهام بالخيانة.
أصوات قليلة تحدّثت عن مكاسب سياسية لحزب الله ستجعله المهيمن بالقوة على لبنان، لبنان الذي أنهى الوجود العسكري السوري فيه بعد اغتيال الحريري لينعم بشيء من الاستقلالية، كان لا بدّ من عودته إلى تبعيتها هذه المرة عبر أيادٍ لبنانية ومن خلال حرب مع “إسرائيل” لا يمكن لأحد المزاودة فيها أو عليها.
مخلفات البعد عن الانخراط في السياسية وغياب التعددية الحزبية، عوض جزء منها دخول الشباب السوري عبر عالم التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية وتنوع المحطات الإخبارية لمعرفة ما يحدث في العالم، هذه المرّة صار بالإمكان الوقوف على رأي مخالف آخر، بتنا نعرف جزء من أحداث ما حصل في تاريخنا السوري بعيداً عن الحلقات الحزبية، ونسمع لأصوات معارضة كنا قد اتهمناها بخيانة الوطن ودعونا عليها علناً وسراً بالموت والمعاقبة، لم يعد انقلاب الثامن من آذار ثورة، وليس “أمين الحافظ” أبو عبدو “الجحش”، وحرب تشرين ليست “تحريرية”، وأنور السادات خرج من أغانينا التي تدعو “لأكل مصارينه من قبل الكلاب السعرانة”، بل وهناك فرق بين الطليعة المقاتلة والإخوان المسلمين وإبراهيم اليوسف ليس “مجرماً” والأهم أن المعتقلين في السجون السورية ليسوا مجرمين وقتلة أيضاً، بل إن غالبيتهم ضحايا وأجزاء منهم أصحاب موقف سياسي أرادوا لسوريا أن تخرج من قبضة الحكم الواحد الأبدي فأودعوا في المعتقلات لسنين كثيرة، والقائمة تطول…
الثورة السورية كانت بيضة القبان في حدّة الخلاف، ذلك أن ما سبقها كان يدور في أماكن وأحاديث ضيقة بعيداً عن قبضة الأمن التي لم تتراخى يوماً، إلا أنه صار من الصعب أداءها لعملها على أكمل وجه، وبخروج بعض المناطق مع بداية الثورة عن قبضة الأمن صار الصوت أعلى وبات استرجاع الحوادث القديمة جزء من الدفاع عن أحقية الثورة وإعادة التفكير بها من منطق آخر، أظنه كان يمثل أقصى حالات الخلاف وربما التطرّف، للدرجة التي باتت فيها الأحداث الحقيقية عرضة للمساءلة من جديد، ولكن ولضعف في الحالة التنظيرية وانجراف عاطفي مرّة أخرى بقيت تلك الأصوات تأخذ شكل الضدية دون الوقوف عليها بطرق صحيحة.
تحوّل الجميع باختلاف الخنادق إلى محللين بالسياسة، وكردة فعل عن صمت قديم أصبح الاستماع حالة نادرة مقابل كثرة الكلام وتغير القناعات، وانتشار عقدة المظلومية وسرديات الألم، وتعدى ذلك أحياناً إلى خطاب طائفي وأكثر من ذلك مناطقي أو ضمن العائلة الواحدة، ونتيجة لضعف المعرفة السياسية وعدم الإلمام بالتاريخ واستشراف المستقبل بدت تلك القناعات ضعيفة وهزيلة، ومن الممكن وفي كل وقت تكسيرها والنيل منها، الفارق الوحيد بين الخندقين أن المنتمين للثورة كانوا يملكون قضية محقة في مقابل أشخاص لا يملكون الحجة والحق في وقت واحد.
عشرات التحليلات السياسية والتي بنيت عليها مواقف عدائية من أشخاص أو مؤسسات أو حتى فصائل في الثورة السورية امتازت ببعدها عن الجدوى من جهة، وقصورها ومخالفتها للحقيقة من جهة أخرى، ولعلّ التعاطي معها أوضح صورة عشوائية وفجة لما يبدو عليه الوعي السياسي والاجتماعي، وانتشرت حملات للتخوين واستهداف الأشخاص بشكل مفرط، وبأحكام جاهزة، ومن خلال بعض من تصدروا المشهد في كل فئة ليتبعهم، ودون قراءة أو معرفة، أعداد لا بأس بها من المتابعين الذين يتحولون في كل مرة إلى قضاة وقادة عسكريين ومنفذي أحكام في آن معاً.
والأمثلة كثيرة عن “موضة الدخول بالسياسة” وانقلاب المواقف بحسب الجوّ العام، إلّا أن أهمها على الإطلاق تلك القضايا المتعلقة بالمعارك والعسكرة، فالثوار أبطال حين يحققون تقدماً ما، هم نفسهم باعوا الأرض عند ميل كفة الميزان، والجيش الحرّ “حرامي” هو نفسه من نتغنى ببطولاته، والإسلاميون “يأكلون الثورة ويسرقون خيراتها” ذاتهم من شهدنا لهم في معارك كثيرة بالبطولة ووصفناهم بأجمل الصفات وتحدينا بهم النظام في مناسبات كثيرة، لا أتفق أو اختلف مع كل تلك التوصيفات، ولا أريد هنا منّا أن نصمت عن أي انتهاك ولكن علينا، وهو أقل ما يمكن فعله، أن نبني رأينا بناء على حقيقة بعيداً عن التعميم وبتجرد عن حادثة معينة.
لم يقتصر الهجوم بعشوائية على الفصائل العسكرية، بل تعدى ذلك إلى دول وأجندات، أيضاً لا أختلف مع الذين يهاجمون تلك الدول ضمن معطيات حقيقية، فتركيا الضامن والصامت، وهي أيضاً المحتل والداعم، شأنها شأن قطر وأمريكا…
وبالعودة إلى التقلبات المزاجية خلال سنوات الثورة من خلال المعطيات العامة نجد الخطاب السياسي السوري يعاني من حالة اضطراب وبعد عن الرأي الثابت أو حتى الواضح منه، وإن كان هنا لا بدّ من سؤال يطرح نفسه في كل مناسبة، أين نحن من كل ما يحصل وماذا علينا أن نفعل وأخيراً في أي الاتجاهات سنضع أقدامنا؟
باستشهاد حارس الثورة اليوم، عبد الباسط الساروت، نجد مثالاً واضحاً لهذا الاختلاف، الجميع متفقون على مكانة الساروت في الثورة السورية والتزامه بها، إلّا أن موجات من العداء والتخوين طالته في غير مناسبة خلال حياته، واتهامات له بمبايعة داعش وجبهة النصرة وانحرافه عن نهج الثورة التي بدأها، من الطبيعي أن يخاف من يحبه اليوم رثاءه، أولاً علينا معرفة حقيقة اتجاهه وثانياً وضعها في ميزان الردح السياسي وثالثاً ورابعاً، وللحقيقة كان علينا أن نبحث ذلك قبل استشهاده لا بعده، وأن نسمعه جيداً قبل فوات الأوان، وخسارة الثورة أحد أيقوناتها وشبيهها بالفاجعة.
علينا أن نعيد ترتيب الأحداث بروية أكثر، وأن نحاول بناء شكل من أشكال الوعي السياسي يلتزم بمعايير تعتمد على الحقيقة والفكر لا على ردات الفعل، خاصة وأن الثورة قدّمت لأبنائها فرصة لن تتكرر ثانية لبناء سوريا كما يجب أن تكون.