جذبت رائحة توابل كعك العيد أم ضياء، كانت بعض نساء الحي قد اجتمعن في بيت جارتها سعاد لمساعدتها في تحضيره، العيد على الأبواب والغرفة تحوّلت إلى ورشة عمل تفوح منها رائحة جوزة الطيب واليانسون والشمرا والسمن العربي. نضوج أول صواني الكعك في الفرن أضفى على المكان رائحة زكية، الابتسامة علت وجوه الجميع وهن يتذوقن ما ساهمن في إنجازه، وكأنه إيذان ببدء العيد، وحدها أم ضياء شعرت بالاختناق، جال بصرها في الغرفة، “صواني سوداء وفرن في الزاوية وطشت عجين، والكثير من الفرح”، وابنها ضياء الذي علق في كل تلك الصور المتداخلة، وهو يجلس عند يديها أما الفرن ينتظر “عيده”، خرجت من الغرفة وركضت إلى شجرة تين تتوسط قطعة الأرض المجاورة لبيتها، أرادت أن تكون وحيدة وبعيدة عن الأعين.
استرجعت أم ضياء تفاصيل وجه ولدها بلحيته الشقراء وعينيه الملونتين، تلك صورة لم تفارقها يوماً بالرغم من مضي سبع سنوات على غيابه، كان الوقت يشبه هذا اليوم حين دخل عليها وحملها وراح يدور بها ساحة المنزل، ضحكت وهي تعيد التفاصيل القديمة وكأنها تحدث الآن، أو ربما من دقائق، لفرط ما أعادت استحضارها في الذاكرة، “تعال نحكي مشتاقتلك كتير”، “بكرا بموت وبتشبعي قعدة على قبري” يجيبها وهي تتمتم “بعيد الشر”، يضحك “لأ بعيد الأضحى”.
تحسست شجرة التين وكأنها تريد لها أن تتذكر معها تفاصيل انشقاقه عن قطعته العسكرية في 2011، كانت الشجرة شاهداً على فرحها بعودته وكيف احتضنته أمام المهنئين وغنت له وبكت عند قدميه، لم تكن تشعر بوجود أحد حولها سوى أن ضياء أمامها تلمس وجهه بعد انقطاع أخباره لما يزيد عن الشهرين.
سريعاً التحق ضياء بخندق الثورة، ليس بالإمكان عدد الأيام التي قضتها الأم خائفة على ولدها في المعارك التي خاضها، شظايا كثيرة أيضاً رافقته في كل معركة، وفي كل مرة كان يطلّ عليها بابتسامة من لم يمت، وبحلم بالمضي حتى الشهادة.
أواخر 2012، وفي معركة البنيان المرصوص، تحقق حلم ضياء بالشهادة إثر قذيفة في المعركة، لم يكن المشهد يختلف كثيراً، شجرة التين ذاتها ووجوه أهالي الحي هي هي التي رافقت فرح انشقاقه تبكي موته الآن، الصدمة نالت من أم ضياء، أيضاً لم تشعر بوجود من حولها، صمتت تلفتت حولها كباحث عن من يكذب الخبر، حاولت مراراً أن تشيح بوجهها عن رؤية النعش الشهيد، البكاء والصراخ أضافا على المكان وجعاً لم تحتمله، فبدت عليها علائم من الدهشة والموت في آن معاً.
غرقت أم ضياء في نوبة بكاء، شعرت النساء بغيابها، كل واحدة منهن تحمل في قلبها وجع فقيد أو لاجئ. على عجينة الكعك مُزجت دموعهن بتوابله، بينما أسندت أخريات رأسهن على الجدار في انتظار الغيّاب.