شهد سعر صرف الليرة السورية في الأيام الماضية تراجعاً كبيراً (وصل إلى575 ليرة مقابل الدولار)، ليكون في أدنى مستوى وصل إليه منذ عام 2016 (وصل سعر الصرف إلى 645)، وسط تخوفٍ من انهيار العملة المحلية إلى مستويات أدنى، بالرغم من ترويج حكومة الأسد بعودة الحياة إلى طبيعتها.
ويأتي تراجع سعر الصرف مع سيطرة قوات الأسد على مساحات واسعة من سوريا كانت خاضعة لقوى المعارضة، والحديث عن إعادة الإعمار، وفي ظل التلويح الأمريكي بعقوبات اقتصادية جديدة، ليبقى المواطن المتضرر الأكبر وسط ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية.
ويعزو الباحث الاقتصادي فراس شعبو تراجع قيمة الليرة إلى عوامل كثيرة “مرتبطة بالغموض حول مستقبل سوريا السياسي، إضافة للعقوبات الاقتصادية التي فرضت من قبل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية عليها” واصفاً انهيار الليرة بـ “المسلسل الطويل الذي بدأ منذ بداية الثورة ولا يزال مستمراً حتى اليوم”.
التخبط في عمل البنك المركزي واستخدام أدواته بشكل بطي جداً أثّر كذلك على قيمة الليرة، إضافة لرفع سعر الفائدة على الودائع الأجنبية إلى 3.8% (لجذب المستثمرين وإيداع أموالهم بالدولار)، والذي أثر سلباً على قيمة الليرة (التي كانت مستقرة طوال العامين الماضيين بسعر مثبت عند 434 ليرة)، وبات عاجزاً عن ضبطها بعد أن فقد المقومات التي تساعده في التدخل لتحسين قيمة العملة، بحسب شعبو الذي أضاف أن “البنك المركزي قام مؤخراً بمنح إجازات استيراد، والسماح لشركات القطاع الخاص باستيراد النفط، ولبعض الصناعيين بافتتاح مصانعهم، ما اضطر التجار لشراء العملات الأجنبية من السوق السوداء لتمويل عمليات الاستيراد وشراء المواد الخام بعد انسحاب المركزي من تمويلها، كل تلك الإجراءات ساهمت في تراجع قيمة صرف الليرة بعد تراجع الطلب عليها وزيادته على غيرها من العملات”.
يونس الكريم (الباحث في الشأن الاقتصادي) قال “إن العقوبات الاقتصادية المفروضة وتدمير البنى التحتية في مناطق النظام، ساهم في توقف الصناعات والمبادلات التجارية وتراجعِ حجم الصادرات التي تولّد العملة الأجنبية، وبالتالي أصبح الأسد مضطراً للاعتماد على الاحتياطات النقدية لتلبية الاحتياجات المختلفة، ما أدى إلى انهيار الليرة وتراجع الاحتياطي للقطع الأجنبي من 18 مليار دولار في العام 2011، إلى 700 مليون دولار اليوم”.
ويرى الكريم أن توسع سيطرة النظام على حساب مناطق المعارضة أثر سلباً على الليرة السورية بعد فقدان كتلة من التحويلات المالية كانت تصل إلى المناطق المحررة، وبصرفها كانت تؤمن قطعاً أجنبياً إلى مناطقه، ناهيك عن أموال المنظمات الدولية العاملة في تلك المناطق، فضلاً عن أموال “الإتاوات” المفروضة على البضائع خلال مرورها على حواجز قوات الأسد.
تحايل والتفاف
يمتلك النظام بعض الامتيازات والحيل التي ساعدته على تلافي انهيار العملة بشكل كبير، كما حصل في السودان على سبيل المثال، والذي تراجعت عملته إلى ما يزيد عن 20 ضعفاً خلال فترة الأحداث القصيرة التي شهدها (كانت تصل قيمة الجنية السوداني إلى 3 مقابل الدولار، اليوم وصلت إلى 60 مقابل الدولار الواحد)، يقول شعبو الذي وصف هذه الحيل بـ “الطرق عير الأخلاقية” للحصول على أموال تدعم الاقتصاد السوري المتهاوي، ومنها “تجارة المخدرات –شبكات الدعارة –منح الامتيازات لبعض رجال الأعمال السوريين لتأمين القطع الأجنبي من خلال تحايلهم على العقوبات، أمثال القاطرجي وسامر فوز وأنس قطان..”
في حين قال يونس الكريم إن “النظام لا يستطيع طباعة الليرة السورية في أي مكان، لذلك يعمد إلى الاستفادة من العملة المطبوعة سابقاً والمتوفرة في السوق السورية، إضافةً إلى العملة السورية المتواجدة في تركيا والسعودية والإمارات، حيث يتم استقدامها تباعاً، كما أن الأسد يقوم ببيع الدولار في السوق السوداء ما يُوفّر له القطع المحلي المطبوع”.
وأفاد يونس أن “من حيل النظام لجوء البنك المركزي إلى التلاعب بسعر الصرف، عبر ضبط السعر بأدنى رقم ممكن، حتى أصبح الفارق في سعر الصرف بين البنك وسعره في السوق السوداء يصل إلى 100 ليرة سورية، وبالتالي أي شخص يود التصدير من مناطق النظام عليه أن يضع الدولار في البنك المركزي أو يأخذ الدولار للاستيراد وهذا الفرق في العملة بين الشراء أو المبيع يُوفّر القطع الأجنبي والمحلي الذي يحتاجه النظام”.
كما أعلن “مصرف سورية المركزي” التابع للنظام، إصدار شهادات إيداع بالليرة السورية بقيمة اسمية للشهادة 100 مليون ليرة سورية، وسعر فائدة 4.5 بالمئة، بغية تشجيع الناس على إيداع أموالهم في البنوك.
وأوضحت صحيفة “تشرين” التابعة للنظام، أن تلك الشهادات ستساهم في تحسين إدارة السياسة النقدية للمصرف المركزي، عبر إتاحة أدوات جديدة على صعيد إدارة السيولة، إضافةً إلى جذب شريحة واسعة من المدخرين إلى القطاع المصرفي، ما يشير إلى أن الأسد يسعى إلى تحقيق مكاسب من شهادات الإيداع تلك، عبر سحب الكتلة النقدية الفائضة في السوق، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض كمية العملة المحلية في السوق السورية، وبالتالي زيادة قيمتها بالنسبة إلى العملات الأجنبية.
توقعات بانهيارٍ أكبر
انهيار الليرة السورية انعكس سلباً على المواطن بشكل كبير، وقال أبو عبدو من سكان جرمانا بريف دمشق: “مع كل ارتفاعٍ في الدولار نتفاجأ بارتفاعٍ جديدٍ في الأسعار، رغم أن السلع محلية وليست مستوردة ولم يشتريها صاحبها بالدولار، وحتى حين تتحسّن الليرة أمام الدولار تبقى الأسعار مرتفعة ولا تنخفض، وحين تسأل صاحب المحل عن السبب يقول إنه اشترى البضائع حين كان الدولار مرتفعاً”.
يرى يونس الكريم أن “الركود الاقتصادي وانخفاض قيمة الليرة من جهة وارتفاع مستوى التضخم من جهة أخرى يجعل السلع متوفرة لكن بأسعارٍ كبيرة، ما يضطر المواطن إلى شراء الحاجيات الأساسية فقط، وهذا يساهم في انخفاض قوة تداول الليرة السورية نتيجة انخفاض القدرة الشرائية للمواطن”.
ويتراوح متوسط راتب الموظف السوري ما بين 40-45 ليرة سورية، أي ما يعادل حوالي 70 -80 دولار فقط، في حين أقرت الأمم المتحدة أن حد الفقر التعارف عليه عالمياً (وهو المستوى الأدنى من الدخل الذي يحتاجه الفرد ليتمكن من توفير مستوى معيشة في بلد ما)، هو 1.9 دولار يومياً لكل شخص، وهو ما يعني (228 دولار شهرياً لعائلة مؤلفة من أربعة أشخاص)، ما يعني أن أغلبية المواطنين في سوريا يعيشون تحت مستوى حد الفقر.
وكشفت دراسة حديثة أجراها مؤخراً “المركز السوري لبحوث السياسات” بالتعاون مع الجامعة الأمريكية في بيروت، أن أكثر من 93 بالمئة من السوريين يعيشون في حالة “فقر وحرمان”، بينهم نحو 60 بالمائة في حالة “فقرٍ مدقع”، مؤكدةً على أن هذا شكّل كارثةً للأمن الغذائي للسوريين.
وأوضح فراس شعبو أن “الأسد يعيش أزمة اقتصادية خانقة”، مستشهداً بـ “أزمة المحروقات التي شهدتها مناطق سيطرته خلال الفترة الماضية، ولجوء النظام إلى تأجير ميناء طرطوس واستثمار روسيا لمطار دمشق الدولي”، وهو ما سيخلق حالة من التخوف لدى السكان والمستثمرين من مستقبل الليرة السورية، ستدفعهم إلى استبدال كل ما لديهم من مدخرات إلى العملة الأجنبية وعلى رأسها الدولار، ما يعني أن الليرة السورية يمكن أن تنهار أكثر خلال الفترة القادمة وقد تصل إلى 800-900 ليرة أمام الدولار، ولا سيما في حال بدأت مرحلة إعادة الإعمار التي ستحتاج إلى طلب هائل على العملة الأجنبية.
تتوسع دائرة التأثر من انخفاض قيمة الليرة إلى المناطق المحررة يقول يونس الكريم، خاصة وأن كثيراً من السلع والمواد الأساسية تأتي إليها عبر مناطق النظام الذي سيرفع الدعم عن “السلع الأساسية وعلى رأسها الخبز”، ويزيد من الضرائب المفروضة على المواطن، في حال استمر سعر الصرف بالصعود.
الليرة والدولار
سعر صرف الليرة في 2011 كان 45 مقابل الدولار، ثم تراجعت إلى نحو 97 ليرة للدولار نهاية عام 2012، في حين وصلت لـ 300 ليرة نهاية 2013، إلا أنها تعافت قليلاً عام 2014، فتراوح سعر الصرف بين 170 ليرة منتصف العام و220 ليرة نهاية 2014.
في عام 2015 تراجع سعر الليرة مجدداً ليصل إلى 380 للدولار الواحد، وبلغت أسوأ مستوى لها على الإطلاق عام 2016 وهوت إلى ما دون 645 ليرة، ليعاود سعر الليرة بالتحسّن عامي 2017-2018 ويتراوح بين 420-470، لكن مع مطلع عام 2019 بدأت الليرة بالانهيار مجدداً إلى أن وصلت إلى 575 مقابل الدولار.