على الضفة المقابلة لعجزنا أطفال يفترشون أراضي الزيتون، بثياب باردة، خرجوا كيفما اتفق يريدون الحياة. وهم ينظرون إلى الكاميرا أرادوا التلويح من بعيد، ولكن يدهم الصغيرة لم تقوى على ذلك، فاكتفوا بالحزن.
مع عودة النظام إلى براميله المتفجرة، خلال الأيام الماضية في إدلب وريفي حماه، بعد صيام عنها لأشهر مضت، نزح آلاف من سكان المنطقة، ليجدوا أنفسهم في العراء مرة أخرى، بعد أن ضاقت الأرض بسكانها، في ظل عجز المؤسسات الحكومية المشغولة بموائد طعام الزكاة، وفرض الضرائب وسن القوانين وملاحقة الناس، هذه المرة لن تستطيع “سواعد الخير” أن تمنع الاختلاط حيث لا جدران تحمي الناس ولا ستائر تقيهم البرد.
لا أعرف إن كان من المجدي نقل هذه المعاناة والصور، ما أعرفه حقاً أن نظرتنا للمأساة تبدلت خلال سنوات الثورة، بعد أن تحولنا جميعاً إلى أرقام وصور وحروف مكتوبة، فعند كل تصاعد للموت يزداد الطلب علينا، نحن الذين تحوّلنا إلى زاوية صحفية تزداد قيمتها طرداً مع كم البؤس والألم العالق على وجوهنا وثيابنا وأقدامنا الحافية.
حاولت جدياً خلال الأيام الماضية أن أكتفي بالصمت والمشاهدة، إلّا أن شعوراً ما بدأ يدفعني للكتابة، كان مردّه صورة استفزازية لمؤتمر الزكاة تحت رعاية حكومة الإنقاذ الرشيدة وبمباركة من أمرائنا في الهيئة، رافقها صورة لأطفال في حقل فارغ إلّا من التراب، حاولت التدقيق في ملامح الصورة الثانية علّي أجد ما يقتاتون عليه، دون جدوى. وحلقة جديدة من برنامج يا حرية الذي يعرض على تلفزيون سوريا، وبكاء المعتقل بشار وانلي وهو يروي ما حدث له خلال اعتقاله، كان زخم الألم هائلاً وبدأت القشعريرة تلامس كل بوصة في الجسد والروح، لأسأل نفسي “ما الذي علينا أن نفعله للخروج من عجزنا”.
قد لا تكون الكتابة هي الحل الأمثل لهدوء الروح، وربما ستزيد من حجم الكآبة واليأس. يراها البعض توثيقاً لما يحدث، آخرون وجدوا فيها مواجهة حقيقية لما أنكره نظام الأسد ومجرموه من انتهاكات ووحشية، وبعضنا وجد فيها تسليطاً للضوء لتنمية الضمير علّه يفيق.
ربما يكون كل ذلك صحيحاً، ولكن الحلقة التي أفلتت رغماً عنا تكمن في “البضاعة الرائجة”، وكيف تحوّل السوريون إلى مادة للعرض والمشاهدة، إذ غالباً ما يرتبط تمويل أي مشروع صحفي أو إعلامي بالسائد من منتجات، أذكر أن حلب كانت تلك السلعة وقت حصارها، وداعش في فترات لاحقة، وقسد منذ أشهر، وإدلب اليوم، أما المعتقلين والمعتقلات والناجين والناجيات من سجون الأسد فهم “بياعون” دائماً وخلال كل تلك الأوقات.
هناك شعرة تفصل بين تصدير المشهد كسلعة وأنسنته، وهنا علينا أن نسمع منهم وعنهم، منا وعنا بطريقة فطرية، لا بخلق أيقونات ولا هدمها، ولا بصناعة أصنام وفزاعات أو تحطيمها، هم نحن في مشهد معاكس وعلينا أن لا نعاملهم كمادة بل كأرواح وفكرة. نستمع إليهم نحزن معهم ونضحك أيضاً برفقتهم، نربت على أكتافهم كأصدقاء وشركاء حياة لا بنظرة شفقة وعطف، نتعلم منهم لا أن ننظر عليهم، نبدأ بـ “يخبرنا” أو “يروي” لا بـ “قال”، نحن لسنا متنصلين ولا حياديين، نحن شركاء في همّ وخندق وثورة واحدة، ولا يعنينا بحال من الأحوال الوقوف على مهنيتنا، ذلك أن الحقيقة لا تحتاج إلى براهين.