فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

السيالة ترافق أهالي حماة في نزوحهم

محمد الأسمر

في العامين الماضيين بدأت تنتشر تلك الأكلة التراثية بين أهالي إدلب وصارت من الحلويات الحاضرة والتي تقام عليها الولائم في السهرات ويدعى إليها الأهل والأصحاب، ليشكل النزوح ورغم سلبياته حالة جديدة من حالات تمازج الثقافات التي باتت متبادلة بين أهالي إدلب وأهالي المحافظات الذي لجؤوا إليها خلال سنوات الثورة.

على دفة خشبية صغيرة تجلس أم محمد مقابل بابور الكاز الذي أوقدته تحت صفيحة سميكة من الحديد، تعرف بـ “حجرة السيالة” لتحيط بها بناتها وزوجات أبنائها على أمل أن يتعلمن الطريقة التي حفظتها كبيرتهم عن والدتها، تتفحص أم محمد صفيحة الحديد بين الحين والآخر بانتظار أن تصل لدرجة الحرارة المطلوبة لتسكب عليه خليط الطحين الذي أعدته منذ قليل لصناعة رقائق “السيالة” الحلو المناسب لهذه السهرة الشتوية.
تعرف السيالة بأنها من الأكلات الحموية التراثية ورغم انتشارها اليوم في بقية المحافظات إلا أنها تنسب لمدينة حماة ويعود تاريخ صناعتها لأوائل العصر العباسي نقلاً عن مخطوطة المأكولات العباسية، ولم يُذكر السبب الرئيس لتسميتها بهذا الاسم  وقد تكون سميت هكذا لأن عجينتها تسيل على الحجرة المخصصة لصناعتها سيلاناً، على خلاف كل أنواع الحلويات التي تحتاج إلى “المشبك” أو اليد لمد العجينة المتماسكة، لكن من المؤكد أن تلك الأكلة نالت حظوتها في كتابات المؤرخين.
اشتهرت أم محمد بين جاراتها بخفتها في صنع تلك الرقائق، فقد اعتادت صناعتها كل أسبوع قبل أن تترك مدينتها حماة وتخرج إلى إدلب.


تصنع السيالة الحموية بصنفين “سميك ورقيق” تقول، وتختلف مقادير كل صنف لتمنحه طعماً مميزاً عن الآخر، لكن الرقائق أكثر انتشاراً. وتعرف السيالة بأنها الحلوى الوحيدة التي لن تجدها في المحلات، فقد اعتاد عشاقها على صنعها في منازلهم، قبل أن تختص بعض محلات المعجنات بصناعة رقائقها، إلّا أن تحضريها لا يتم إلا في المنازل.
تسكب أم محمد كوباً من خليط سائل صنعته من الماء والدقيق والملح والسكر والقليل من الخمائر على صفيحة الحديد وتمدها بيدها لتحصل على رقيقة دائرية كـ “شكل الصفيحة”، تنتظرها لثواني معدودة قبل أن تنزعها لتقلبها على الوجه الآخر وتتفحص جودة العمل. ترمقنا أم محمد بنظرة فخر تُفهم من عينيها قبل أن تخبرنا بأن سيالتها “أرق من الورقة” كدليل على جودة الصنعة، حيث تشتهر تلك السيدة بين نساء الحي بقدرتها على صنع السيالة بهذه الجودة، بينما تتمنى ابنتها نهى أن تتمكن يوماً من صناعة السيالة على طريقة والدتها.

تعيش أم محمد اليوم في مدينة كفرنبل بريف إدلب بعد اضطرارها للنزوح، تقول إنها تعيش على ذاكرتها، وكلما استفزها الحنين إلى حياتها السابقة تلجأ لصناعة السيالة ودعوة من وفَد معها من أقاربها وأصدقائها، لتبدأ سهرات من الحكايا والقصص والذكريات.


ترصف أم محمد رقائق العجين فوق بعضها البعض بعناية فائقة خوفاً من تمزقها  بعد وضع طبقة من الطحينة والسمن على كل رقيقة، ثم تدخلها الفرن لدقائق قليلة قبل تقطيعها وغمرها بالقطر.
تختلف المكونات اليوم عن تلك التي كانت تستعملها أم محمد في مدينة حماة حيث كانت تصنعها بطريقتين حسب رغبة الضيوف، ويشكل الجوز البلدي والسمن العربي أهم عناصرها، حيث يفرش بكمية كبيرة بين رقائقها في الطريقة الأولى بينما يستعمل الدبس والطحينة بدل الجوز في الطريقة الثانية، لكن ارتفاع الأسعار خلال السنوات الأخيرة دفعها للاقتصار في صنعها على هذه المكونات.
تخرج أم محمد وجبتها من الفرن وتروي طبقاتها بالقطر الممزوج بالسمنة التي ستمنحها لمعاناُ مميزاً، قبل أن تضعها على مدفأة الحطب لتحافظ على حرارتها ريثما يجتمع أفراد العائلة.
تسكب أم محمد صحناً من السيالة المزينة بجوز الهند وترسله لجارتها “الكفرنبالية” أم علي  التي عبرت عن سعادتها بتذوق هذه الأكلة من جديد، وترى أم علي أن لكل مدينة أسلوبها في صناعة الأكلات التراثية التي تشتهر بها ويصعب على الآخرين إخراجها بنفس الجودة حتى لو اتبعت نفس الأسلوب في الصناع فـ”الأكل نفس”  قبل أن يكون مجموعة من المكونات، بحسب أم علي.

يلتم الأحفاد والأولاد  حول والدتهم متسابقين للحصول على نصيبهم من السيالة الساخنة لتسيطر على أجواء السهرة مشاكسات الأطفال وأحاديث الكبار التي لا تخلو من استحضار سير بعض الأقارب ممن كانوا يشتهرون بشغفهم لهذه الأكلة عند أم محمد، تعلو الضحكات عند ذكر المواقف الطريفة التي عاشوها حول نفس الطبق لكنه ضحكات لا تخلو من الغصة للأيام الجميلة التي عاشوها في حماة.
يعم المكان ثوان معدودة من الصمت قبل أن يقطعه محمد “ما في أطيب من السيالة بالبرد” كمية السكر الموجودة ضمن السيالة مع السمن والطحينة تمنح الجسم طاقة وحرارة جيدة في فصل الشتاء لذا تعتبر الليالي الباردة أكثر الأوقات مناسبة لها.
في العامين الماضيين بدأت تنتشر تلك الأكلة التراثية بين أهالي إدلب وصارت من الحلويات الحاضرة والتي تقام عليها الولائم في السهرات ويدعى إليها الأهل والأصحاب، ليشكل النزوح ورغم سلبياته حالة جديدة من حالات تمازج الثقافات التي باتت متبادلة بين أهالي إدلب وأهالي المحافظات الذي لجؤوا إليها خلال سنوات الثورة.
تعلمت أم محمد من جارتها العديد من الأكلات الإدلبية مثل (المحمر العطونة والجرنة) وهي من الأكلات التراثية التي تشتهر بها كفرنبل في حين ما تزال “أم علي” تعتزم تعلم صناعة السيالة والكبة المشوية على الطريقة الحموية .
لم تغب أكلة من الأكلات التراثية التي اعتادها الناس قبل الثورة عن رفوفهم لكن ظروفهم الجديدة دفعتهم لإدخال العديد من التعديلات بما يتناسب مع الظروف المعيشية التي يمرون بها، فتم استبدال الجوز البلدي بالفستق السوداني وتم استبدال لحم الغنم بلحم الدجاج في حين غابت السمنة العربية عن تلك المأكولات ليدخل مكانها الزيت النباتي أو السمن المهدرج.