تنشط في مثل هذه الأيام من شهر نيسان تربية النحل، فتجد الكثير من مربي النحل في المراعي يرتدون لباسهم الأبيض التقليدي الذي يقيهم من لسعات النحل، ليقوموا بنقل الخلايا من مكانٍ لآخر، إلا أن ذلك المشهد أصبح نادر المشاهدة اليوم في المناطق المحررة، بعد تراجع تربية النحل وعزوف الكثير من المربين عنها.
وتعد سلالة النحل السوري من أجود السلالات في بلاد الشام، ويعتبر الشمال السوري والمناطق الساحلية بيئة مناسبة لتربية النحل، في ظل توفّر المناخ الجيد والمراعي الخصبة، وكانت تربية النحل مهنة رائجة في سوريا قبل اندلاع الثورة، ويعتمد عليها المربون كمصدر دخل.
واحتلت محافظة إدلب المركز الأول في سوريا بعدد طوائف النحل، والتي كانت تقدّر بأكثر من 90 ألف طائفة في 2011، وبلغ إنتاج المحافظة من العسل في ذلك العام 550 طناً، حسب إحصائية وزارة الزراعة في حكومة النظام، حيث تتركز تربية النحل في أريحا والدانا ومعرة النعمان وخان شيخون ودركوش.
ومع تصاعد القصف واندلاع المعارك في السنوات الماضية، تراجعت تربية النحل كثيراً، وعزف العديد من المربين في الشمال المحرر عن مزاولة تلك المهنة، فمنهم من نزح الى مناطق أخرى أو هاجر خارج سوريا، بينما فضّل الباقي مزاولة عملٍ آخر، وبدأت المناحل بالاختفاء تدريجياً من السهول والمراعي التي تشتهر بها، بعدما طرأت صعوبات وتحديات كثيرة على تلك المهنة ولم تعد مصدر دخلٍ مجدٍ لأصحابها.
وقال أسامة شيخ تلت أحد مربي النحل في سهل الروج بريف ادلب “تربية النحل إحدى المهن التي تضررت نتيجة ظروف الحرب، حيث ساهمت تحديات وصعوبات كثيرة في تراجعها بعد أن عزف الكثير عنها، بينما تقلّصت بشكل كبير عدد المناحل لدى من بقي يزاول المهنة، فأنا كنت أملك أكثر من 80 خلية نحل قبل سبع سنوات، أما اليوم لم يبق لديّ سوى 15 خلية، وهو حال الكثير من مربي النحل في المنطقة”.
وتابع شيخ تلت “في السابق كانت هذه المهنة مصدر دخلٍ رئيسي بالنسبة لي، وكان كل وقتي منصبّاً في تربية النحل وتسويق العسل، بينما في هذه الأيام أعمل بالزراعة بشكلٍ أساسي، وباتت تربية النحل مصدر دخلٍ ثانوي”، مضيفاً “فكرت في العزوف عن تربية النحل بشكل كامل والتفرّغ فقط للزراعة لكن تعلّقي بهذه المهنة التي ورثتها عن أبي وجدي دفعني للاستمرار بمزاولتها ولو بشكلٍ جزئي”.
النحل بلا مراعي
يعتبر توفير المراعي والمناخ المناسب أحد أهم الشروط التي تساعد النحل على إنتاج العسل، إلا أن تصاعد القصف والمعارك، حال دون قدرة مربي النحل على نقل الخلايا من مكانٍ لآخر لتوفير البيئة المناسبة للنحل.
وقال يحيى حج يوسف أحد مربي النحل في كفر حمرا بريف حلب: إن “النحل بحاجة إلى مراعي مختلفة ومتنوعة الزهور لإنتاج أصناف متعددة من العسل، لذلك كنا سابقاً خلال فترة الربيع نترك النحل يرعى ضمن البساتين المتواجدة في ريف حلب الغربي، ومع حلول الصيف نتوجه إلى الرقة حيث تتوفر المراعي الخصبة، التي تحوي شجرة الكينا وزهر القطن على طرفي الفرات خاصةً في شهري تموز وآب”.
وأضاف حج يوسف “في الشتاء ننقل خلايا النحل إلى المناطق الساحلية حيث المناخ المعتدل والدافئ، وهو ما يتناسب مع بعض أنواع العسل، وفي بعض الأحيان إذا أردنا الحصول على عسل اليانسون ننقل الخلايا إلى مراعي ريفي حماة وحمص، أما اليوم فبات من المستحيل التنقّل الى تلك المناطق خوفاً من الملاحقة الأمنية أو القصف، لذلك اضطر الكثير من المربين إلى تخفيض عدد الخلايا والاقتصار على بعض المراعي في المناطق المحررة”.
وأِشار حج يوسف الى أن “اعتماد النحالين على المراعي في مناطقهم، يتطلب كذلك ري بعض المحاصيل لزيادة انتاجيتها من الزهور والنباتات التي يتغذى النحل من رحيقها، لكن ارتفاع أسعار المحروقات حل دون إمكانية ريها بشكل كافٍ، واقتصارهم في أغلب الأحيان على الأمطار، وهذا يؤثر سلباً على النحل كونه بحاجة لغذاءٍ جيد كي يكون قادراً على إنتاج العسل”.
وتختلف أنواع العسل تبعاً لنوع النحل أو المراعي التي يتغذى عليها، فعسل الكينا والقطن يتم الحصول عليه من مراعي الرقة، وعسل الحمضيات كان يُنتج من مراعي الساحل، فيما اقتصر الإنتاج حالياً على عسل اليانسون والشوكيات وحبة البركة والجيجان وعبّاد الشمس واللوزيات، لتوفر مراعيها في المنطقة.
أوبئة فتّاكة وأدوية غير فعّالة
لا تقتصر معاناة مربي النحل على قلة المراعي وصعوبة التنقّل، بل يعتبر انتشار الأوبئة التي تصيب النحل مشكلةً أخرى تتضاعف مع عدم توفر الأدوية الفعّالة لمكافحة الآفات والأمراض.
وقال المهندس الزراعي عمر شعار “انتشرت خلال الفترة الماضية أدوية غير فعّالة ألحقت الضرر بخلايا النحل، ومنها المبيدات الحشرية (اللانيت)، أما الأدوية شديدة الفاعلية فأسعارها ارتفعت ستة أضعاف، كونها تصل من مناطق سيطرة النظام وتمر عبر الحواجز التي تتقاضى أتاوات للسماح بمرورها، إضافة إلى فقدان كثير من أنواع الأدوية من الأسواق”.
وتعتبر الحشرات من أشد أعداء النحل، ولاسيما الدبور الأحمر الشرقي والدبور الأصفر الغربي، الذي يهاجم النحل ويقوم بافتراس النحلات العاملات وسرقة العسل، كما أن طائر الوروار الذي يعيش في المنطقة الشرقية ولاسيما حول ضفاف الفرات، يُشكّل خطراً على النحل، ويقوم بافتراسه أثناء طيرانه في الجو، ما يجعل النحل يبقى قابعاً في خلاياه.
وأضاف المهندس شعار أن “النحل يعاني من الكثير من الأمراض أبرزها الطفيليات التي تنتشر في أمعائه وتؤدي الى انتفاخ بطونه ليصبح غير قادر على الطيران، ويمكن أن يتعرض النحل أيضاً للإصابة بالقمل في منطقة الصدر، إضافةً إلى مرض تكيّس الحضنة، الذي يتسبب في موت يرقات النحل، بعد أن يتم تغطيتها بالشمع”.
وحول كيفية التعامل مع تلك الأمراض يكمل الشعار “يمكن العلاج عن طريق تبخير المناحل بالكامل بمادة تسمى التمول، أو تقديم محلول للنحل المصاب يتضمن مقدار 0.25 جرام من مادة تسمى الفومديل مع حوالي 25 لتراً من محلول السكر بمعدل أربع مرات خلال شهرين، وفي بعض الأحيان يجب إستبدال الملكة المصابة بأخرى سليمة، كما على المربي أن يحافظ على الخلية ممتلئة وخالية من الفراغات حتى لا تستطيع الفراشات الدخول إلى الخلية ووضع بيوضها فيها”.
بدوره قال يحيى حج يوسف أحد مربي النحل “عانينا هذا العام من تغييرات كثيرة في المناخ، ولاسيما الأيام الماضية التي شهدت موجة بردٍ قارصة، وهذا أثّر بشكلٍ كبيرٍ على النحل، كما أن المربين باتوا يعتمدون على النحل المحلي، الذي يعتبر إنتاجه للعسل قليل ومناعته ضد الأمراض ضعيفة، بينما كنا نعتمد سابقاً على نحلٍ مستورد كالأوكراني أو الإيطالي، وكلا النوعين يعطي كمية عسلٍ أكبر ولديه قدرة أعلى على مقاومة الأمراض ويحتاج لجو معتدل كجو الساحل”.
كما ساهم قطع الأشجار في الشمال المحرر في تراجع مهنة تربية النحل، حيث تعد الأشجار المرعى الطبيعي للنحل، في ظل قصف قوات النظام للمنطقة وعدم قدرة المربين على نقل الخلايا من مكان لآخر من أجل رعايتها والاهتمام بها، وبذلك بات النحل بلا مراعي تقريباً.
إنتاج ضئيل وتكلفة باهظة
وفي ظل صعوبة استيراد النحل الايطالي والأوكراني، اعتمد المربون على النحل السوري الذي أصبح هجيناً بفعل استيراد ملكات التلقيح وإنتاج البيوض من تركيا أو من مناطق سيطرة النظام، والتي بلغ سعر الواحدة منها 300 دولاراً، والنحل السوري له نوعان: السيوفي وهو شرس، والغنامي الأكثر هدوءاً، ولكن إنتاجهما للعسل ليس وفيراً كالأوكراني والإيطالي.
كما يعاني المربون من صعوبة تأمين مادة الشمع اللازمة لعمل إطارات خلايا النحل، فلا يوجد سوى معمل واحد في بلدة سرمدا بريف إدلب لإنتاج الشمع، إضافةً إلى ارتفاع أسعار الخلايا الفارغة؛ فسعر الخلية الواحدة بلغ 15000 ل. س، بعدما كان سعرها لا يتجاوز الألف ليرة.
وقال يحيى حج يوسف “أصبحت كلفة إنتاج العسل مرتفعة مقارنةً بسعره في الأسواق، ففي ظل انتشار الأوبئة التي أضرّت بالنحل، أصبحنا نحتاج إلى شراء الأدوية والملكات الأجنبية، إضافةً لتكلفة التنقّل وتأمين مستلزمات النحل من خلايا وإطارات، فضلاً عن صعوبة التسويق مع انخفاض الطلب على العسل نظراً لارتفاع سعره، وهذا سبّب لنا خسائر كبيرة، فكلفة إنتاج كيلو العسل تتراوح ما بين 4000-5000 ليرة سورية، بينما يتراوح سعره في السوق ما بين 6000-7000 ليرة سورية، وبالتالي فإن هامش الربح بات ضئيلاً للغاية”.
وأضاف حج يوسف “في ظل ارتفاع تكاليف إنتاج العسل أصبحنا نعتمد على النحل السوري المهجّن وليس الأوروبي، كما نقوم بإعادة تأهيل المناحل بمادة الشمع اللازمة بشكل يدوي، بينما كان تأهيلها يتم سابقاً في معامل مختصة، وهذا يؤثر على كمية الإنتاج، حيث باتت المنحلة الواحدة لا تنتج أكثر من أربعة كيلو غرام من العسل في الموسم الواحد، في حين كان يبلغ إنتاجها سابقاً حوالي 8-9 كيلو غراماً”.
وكان العسل السوري يُصدَّر لدول الخليج ولبنان، أما اليوم فيقتصر الأمر على بعض المحلات الصغيرة والمشافي التي تستخدمه كعلاج لالتهاب الكبد المزمن والالتهابات العامة والحروق، إضافةً للمصابين بمرض السكر.
عسل مغشوش أما لا؟
مع ارتفاع تكاليف إنتاج العسل الطبيعي بات الكثير من التجار والنحالين ضعاف النفوس، يلجؤون إلى غش العسل بطرق مختلفة، وحول طرق الغش وكيفية كشفها، قال المهندس الزراعي والخبير في مجال العسل مصطفى وهوب إن “هناك طرقاً مختلفةً لغش العسل منها إضافة محلول سكر الجلوكوز التجاري أو سكر السكروز أو محلول السكر المحول أو الماء”.
كما يعمد البعض الى إضافة العسل الأسود لإعطاء العسل المغشوش لوناً داكناً، وقد يكون الغش من خلال جعل النحل يتغذى على محلول السكر بدلاً من رحيق الأزهار، وانتشرت هذه الطريقة في الغش نظراً لقلة المراعي وصعوبة التنقّل من مكانٍ لآخر.
وأضاف وهوب أن “هناك من يعتقد أن العسل الطبيعي داكن اللون، وكلما كان لونه فاتحاً فهذا يعني أنه مغشوش، لكن هذا اعتقاد خاطئ، فلون العسل يختلف حسب المرعى الذي تعذى عليه النحل، فعسل اليانسون داكن اللون، أما عسل الحمضيات فلونه فاتح، كما أن تجمّد العسل في الشتاء ليس دليلاً على أن العسل مغشوش”.
وانتشرت العديد من الطرق التي يمكن من خلالها كشف العسل المغشوش، فهناك من يقوم بغمس ملعقة فى العسل وسحبها إلى أعلى، فإن نزل العسل كخيط متواصل فهذا دليل على أنه عسل جيد، وإذا انقطع هذا الخيط فان ذلك يدل على أنه عسل مغشوش، وهناك من يغمس عود ثقاب فى العسل ويحاول إشعاله فى جدار علبة الكبريت، فإذا اشتعل العود دلّ ذلك على أن العسل جيد، وإذا لم يشتعل فهذا يعني أن العسل مخلوط بالماء.
كما يعمد البعض إلى إلقاء قطرة من العسل على الرمل فإذا تكوّرت هذه القطرة، فذلك يعني أن العسل سليم، وإذا لم تتكوّر فمعنى ذلك أنه عسل مغشوش، أو عن طريق طلاء ورقة بيضاء عادية بالعسل، ومن ثم حرقها فإذا انطفأت يكون العسل جيداً؛ بينما العسل المغشوش بالسكر لا يحترق.
لكن مصطفى وهوب يرى أن “كل تلك الطرق السابقة ليست دقيقة لكشف العسل المغشوش، لأن ذلك يعتمد على نسبة الرطوبة فى العسل، أما الطريقة الأدق هي عبر التحليل الكيميائي، كما أن بعض الخبراء يمكن لهم معرفة العسل الطبيعي من خلال مذاقه”.