بين ميلاد الحزب وعيد الجلاء في نيسان أيام فقط، كنا نضيع بين التاريخين باعتبار أحدهما وهو عيد الجلاء عطلة رسمية للمدارس ومؤسسات الدولة، في الوقت الذي نحتفل فيه بميلاد الحزب العملاق.
المفارقة أن تتعطل الحياة العامة في عيد جلاء المستعمر عن أراضينا لا أن نحوّله كيوم عمل للبناء أسوة بالحركة التصحيحية وميلاد الحزب وغيرها من المناسبات الشخصية التي تضاف إلى إرث القيادة التي سرقت أعيادنا وحوّلتها بقدرة قادر، وعلى رأي الكاتب اللبناني حازم صاغية، من انقلابات إلى ثورة، والذي يرى أن الانقلاب كونه “يهندس في الغرف المغلقة، ويجري في العتم، يخجل من نفسه ومن اسمه. وهكذا يسمي الانقلابيون صنيعهم ثورة، فينأون به عن التآمر المقيم فيه، وينسبون إليه أهدافاً مجيدة”.
يخاف الطغاة من أفعالهم، ولذلك يلجؤون إلى سرقة الأهداف العظيمة وتحويرها لتبدوا وكأنها جزء من أفعالهم، محاولين في كل مرة تجميل ما قاموا به، سواء باستخدام كلمة الثورة أو التصحيح أو من خلال الالتزام الظاهري بما هو مشرف في تاريخ الشعوب التي يحكمونها، من أيام وثورات وتضحيات.
وإن كانت تلك المناسبات هزّتنا في مناسبات كثيرة، وجعلتنا، لا شعورياً، نصرخ بأهدافها التي حُملتها، دون أن ننسى وفي كل لحظة الهتاف بحياة القائد الخالد وابنه “الفارس القتيل” قبل وبعد وموته، وأخ ابنه “الرئيس” قبل توليه السلطة وبعدها، وهو بحدّ ذاته انزياح عن مفهوم تلك المناسبات وجوهرها، إلّا أنها كانت سرقة موصوفة لمعانيها من أشخاص لم يحضروا تلك المناسبات، وليس لهم أي دور في صناعتها، بل لم يكن بعضهم قد ولد حين قامت، وكان علينا أن نهديهم ثمار قطافها. ونكتفي بالتصفيق وأغاني مدح القيادة الحكيمة، وفي مناسبات أخرى تكتفي المدارس باحتفال شكلي لا يخالف من حيث الشكل غيره، إلّا أنه لن يصل بالتأكيد لأيام كالحركة التصحيحية وتجديد البيعة والتي تشهد مظاهرات مليونية يكون الحضور فيها بالاسم، والهتاف بعلوّ الصوت الذي يحدد نسبة الوطنية والانتماء من عدمها، ناهيك عن حلقات الدبكة والنخّ سمة العصور الأسدية.
ومع دخول الثورة السورية تشكّلت ردود أفعال لكثر من المعارضين السوريين تجاه هذه المناسبات، باعتبارها لصيقة بأنظمة الحكم في مناطق الأسد، وبات النيل منها والسخرية من المحتفلين بتأريخها ديدنهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وكأننا على قناعة فعلية بأنهم أصحابها وقادتها. وهم بذلك يعطونه الحق بامتلاك تاريخنا السوري ويُفصلونه على مقاس الأسد، عاقدين بذلك مقارنات لا تصحّ، ظاهرها رفض جميع أشكال الممارسات التي كانت حاضرة ولا تزال في الشارع الموالي لحكمه، وفي جوهرها، وإن لم يكن مقصوداً، نيلاً من ثوابت وطنية وتواريخ دَفع من أجل تحقيقها من سبقنا ما ندفعه نحن اليوم في سبيل الحرية والكرامة.
ويخلص بعضهم أيضاً إلى المفاضلة بين أيام الانتداب الفرنسي وسوريا اليوم، معتبرين ما كان أفضل حالاً بمرات كثيرة عن ما يحصل اليوم، وهو وإن صح في جزء منه يخالف الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها، وهي أن الانتداب لم يكن سوى “احتلالاً”، وأن الحياة لا تقاس بالمقارنة بين “احتلالين”، وهو أيضاً يخالف مفهوم “الثورة السورية” التي خرج أبناؤها لـ “بناء بلد” لا “لإزاحة حكم بحكم آخر”، هي ليست انقلاباً عسكرياً سيلد بالضرورة “ديكتاتوراً آخر” سيحتفل بميلاد الثورة وأيامها وشبابها ويتبنى أهدافها شكلياً، ويجبرنا في كل مرة على الهتاف بحياته وحياة أبنائه.
ليس عيد الجلاء حكراً على الأسد ومواليه، ولن نترك لهم أن يسرقوا تاريخنا، سنحتفل بقداسة بالجلاء، عيد السوريين متمثلاً بعلم الاستقلال والذي لم يكن مصادفة أن يكون علم الثورة اليوم، والاحتفال به كحق مكتسب لجميع السوريين، خاصة أولئك الذين رفضوا حكم الأسد وثاروا عليه، وهي حالة مشابهة للثورة على الظلم والدعوة للاستقلال وجلاء الطغاة والمحتلين بدءً من الأسد وأركان حكمه وصولاً إلى روسيا وإيران والميليشيات التي تحتل معظم الأراضي السورية.