فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

ألعاب أطفال في الغوطة الشرقية خلال فترة الحصار بينها ألعاب مصنوعة من بقايا الصواريخ -إنترنيت

“جيل الثورة”.. آباء صغار يجرفهم تيار الحرب

أما لعبة “ملك –مفتش –جلاد -حرامي” والتي تضم أربعة أطفال، يُعاقب فيها الحرامي عند إمساكه، فقد أصبحت تُلعب على طاولة ويمثل أحد الأطفال القاضي مع مساعدين له، ويتولى طفل دور الجلاد وآخر دور المتهم، الذي يقف أمام القاضي فيوجه له تهمة التشبيح والتعامل مع النظام، ويأمر الجلاد بضربه أو شنقه، فيقوم الأخير بتنفيذ الحكم مباشرةً في مشهدٍ تمثيلي يبدو العنف سمةً بارزةً فيه.

ألعاب الأطفال في الأعياد ظلت حاضرةً، لكن الملفت في بعضها أنها مصنوعة من مخلَّفات الحرب، بعد أن قام بعض الحدادين بإعادة تدوير بقايا القنابل والصواريخ وتحويلها إلى ألعاب، وطلائها بألوان زاهية تعطي البهجة للأطفال، حيث تركّب عدة صواريخ أعيد تدويرها على قاعدة، ويصعد بها الأطفال، ويقوم شخص بدفعها ليجعلها تدور.

“أصبحوا آباءً وهم في عمر صغير.. حياتهم تغيّرت حتى ألعابهم لم تعد كما كانت من قبل”، بوجهٍ حزينٍ وكلماتٍ مختصرةٍ يُلخّص سعد شحادة من سكان مدينة ادلب الحال الذي بدا عليه الأطفال خلال الثورة السورية بعد مضي ثماني سنوات على اندلاعها.

قبل أيامٍ قليلةٍ دخل السوريون عامهم التاسع من الثورة، بعد ثماني سنوات حملت معها تحولاتٍ عديدةٍ تغيّرت خلالها الكثير من ملامح حياة السوريين، الذين شهدوا ظروفاً صعبةً تختلف عما عاشوه على مر عقودٍ من الزمن، ليكون الأطفال هم الضحية الأبرز.

ما بين 2011 و2019 هناك جيلٌ أصبح عمره ثماني سنوات فضلاً عن أطفالٍ كبروا وزادوا وعياً خلال تلك الفترة، لكنهم عاشوا حياةً لم يعشها نظراؤهم من الأطفال قبل الثورة، فلم تعد حياة هذا الجيل أو ما يُطلق عليه اصطلاحاً “جيل الثورة” كما كانت سابقاً.

المدرسة أصبحت حلماً

أطفال “جيل الثورة” فتحوا أعينهم على الحياة وسط القصف والدمار والقتل والحرمان، وفقدَ عددٌ لا يُستهان به من الطلبة السوريين أملهم في متابعة مسيرتهم التعليمية، نتيجة ظروف أهلهم الاقتصادية، فضلاً عن العمليات العسكرية والتدمير الذي طال المدارس في معظم المدن السورية.

صورة تظهر دمار احدى المدارس في ريف ادلب -إنترنيت
صورة تظهر دمار احدى المدارس في ريف ادلب -إنترنيت

 

سعد شحادة ذو 12 سنة أحد أطفال “جيل الثورة” يشرح معاناته قائلاً “وعينا على صوت الطائرات والقذائف والموت، حكاياتنا وأحاديثنا كلها وحتى أحلامنا صارت عن هي الأمور”

يضيف سعد قائلاً لفوكس حلب “توفى والدي بالقصف على إدلب بعد سنتين من دخولي عالمدرسة، ولقيت حالي أب صغير لأخواتي التلاتة وأمي، كان لازم أمنلون مصروفون، دورت على شغل ولقيت بالأخير بورشة تصليح سيارات، ومن وقتا وأنا المسؤول عن عيلتي”.

كما أرهقت ظروف النزوح السوريين، وفاقم انخفاض قيمة الليرة السورية وانتشار الفقر من ظاهرة عمالة الأطفال، حيث وجد آلاف الأطفال أنفسهم مرغمين على العمل لسد احتياجات أسرهم، ومساعدة ذويهم في تأمين مصدر عيش يقيهم الموت جوعاً.

إياد شاب في الثالثة عشر من عمره نزح مع عائلته من خان شيخون إلى مدينة حماه، حيث أستأجروا منزلاً هناك، ما وضع أعباءً كثيرةً على والده الذي بات راتبه التقاعدي لا يكفي سوى لتأمين أجرة المنزل، وهو ما اضطر إياد بعد سنة من نزوحه لترك المدرسة.

صورة تظهر دمار احدى المدارس في ريف ادلب -إنترنيت
صورة تظهر دمار احدى المدارس في ريف ادلب -إنترنيت

يقول “صارت المدرسة حلم، تركت المدرسة مجبراً حتى ساعد والدي، واشتغلت بتوصيل الطلبات بمطعم على البسكليت، كل ما مريت من قدّام مدرسة بحس بغصة كبيرة، بشوف رفقاتي لابسين وحاملين كتب المدرسة، ما عاد قدرت كمل دراستي لهيك بطلع فيهون بوقف شوي وبعدا بكمل شغلي”.

 

أمهات صغيرات

ظروف الحرب لم تقتصر فقط على الأطفال الذين تركوا المدرسة ودخلوا سوق العمل، بل طالت الفتيات أيضاً، فمجرد وصول الفتاة إلى سن البلوغ، يلجأ بعض الأهل الى إيقافها عن التعليم وتزويجها مبكراً، لتصبح أماً تنجب وتربي أطفالها ولم يكتمل وعيها جيداً بالحياة.

يقول أبو وسام شعيب “أعرف أن العلم سلاحٌ بيد الفتاة، لكن ظروف الحرب للأسف أجبرتني على عدم إكمال ابنتي تعليمها، فحين كانت تذهب الى المدرسة أبقى قلقاً عليها خوفاً من تعرضها للخطف، أو استهداف مدرستها بغارةٍ جويةٍ، كما أن الظروف المتوترة جعلتني أفكر بتزويجها لرجلٍ يرعاها فلربما ننزح فجأةً، أو أفارق الحياة دون أن أطمئن على مستقبلها”.

وسبق لوكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية وعمليات الإغاثة الطارئة ستيفن أوبراين، أن أفاد منتصف عام 2017، أن سبعة ملايين طفلٍ في سوريا يعيشون في فقر، وأن نحو 1.75 مليون طفل خارج المدرسة، ونحو 1.35 مليون آخرين معرضين لخطر التسرب.

من طالبٍ متفوقٍ إلى شبيح

في المقابل عمل النظام السوري على تجنيد الكثير من الأطفال مستغلاً حالة الضياع والحرمان التي يعيشونها، عبر إغرائهم بالمال تارةً، وبالنفوذ والسلطة تارةً أخرى، فانخرط عدد من المراهقين في صفوف ميليشيات النظام، وفقد العديد منهم حياته، نتيجة زجهم في الصفوف الأمامية أثناء المعارك.

عبد الوهاب شابٌ في الثامنة عشر من عمره، كان من المتفوقين في مرحلته الاعدادية وبعد أن وصل الى المرحلة الثانوية، أصبح وضع عائلته المادي سيئاً للغاية، فأغراه أحد الشبيحة في دمشق بالتطوع في صفوف ميليشيات النظام.

يقول أحد أصدقاء عبد الوهاب “المال عمى على قلب عبد الوهاب، فتناسى ما فعله نظام الأسد بالسوريين من قتلٍ وتعذيبٍ وتشريد، وانضم إلى صفوف ميليشياته، فأصبح يقف على الحواجز يشتم هذا ويهين ذاك، حتى أني حين شاهدته لم أعرفه، فقد بات شخصاً آخر مليئاً بالحقد والعدوانية، ولم يعد يهتم سوى بالنفوذ والسلطة والتشبيح وسرقة الناس على الحواجز”.

“قاض شبيح جلاد”

الألعاب البسيطة والبريئة التي اعتاد الصغار على ممارستها سويةً على مدار عقود من الزمن غابت بعضها خلال الحرب، بينما دخلت تعديلات على بعضها الآخر تعكس صُبغة الحرب.

ألعاب أطفال في الغوطة الشرقية خلال فترة الحصار بينها ألعاب مصنوعة من بقايا الصواريخ -إنترنيت
ألعاب أطفال في الغوطة الشرقية خلال فترة الحصار بينها ألعاب مصنوعة من بقايا الصواريخ -إنترنيت

لعبة “الطميمة” التي تعد الأكثر شيوعاً، باتت نادرة الوجود، فأغلب سكان المناطق المحررة لا يجرؤون على ترك أطفالهم يسرحون خوفاً من قصف مفاجئ، أو خشيةً من أن يقوم مجهولون بخطفهم، وخاصةً أن لعبة “الطميمة” تتطلب تخفّي الأطفال في أماكن منعزلة، وأصبح الأهل يحرصون على أن يلعب أولادهم أمام المنزل فقط بشرط قيام أحد أفراد العائلة البالغين بمراقبتهم.

كما حملت بعض الألعاب طابع الحرب وأصبحت أكثر تعقيداً، يقول ياسين صوّان من سكان معرتمصرين “لعبة (عسكر وحرامية) المتوارثة منذ أمد بعيد لم تعد كما كانت، فأصبحت اللعبة تعتمد اليوم على اجتماع الأولاد في فريقين، أحدهما يمثل الجيش الحر والآخر يمثل جيش النظام، حيث نتبادل إطلاق النار على بعضنا بطريقةٍ وهميةٍ من خلال بنادقنا البلاستيكية، عبر إصدار أصوات بأفواهنا تشبه صوت إطلاق النار، وعند سقوط أحد من فريق الجيش الحر ممثلاً أنه قُتل، نقوم جميعنا بحمله وتشييعه، ونحن نردد هتافاتٍ ضد النظام، كالتي نسمعها في المظاهرات”.

ألعاب أطفال تحت الأرض في دوما خلال فترة الحصار -إنترنيت
ألعاب أطفال تحت الأرض في دوما خلال فترة الحصار -إنترنيت

أما لعبة “ملك –مفتش –جلاد -حرامي” والتي تضم أربعة أطفال، يُعاقب فيها الحرامي عند إمساكه، فقد أصبحت تُلعب على طاولة ويمثل أحد الأطفال القاضي مع مساعدين له، ويتولى طفل دور الجلاد وآخر دور المتهم، الذي يقف أمام القاضي فيوجه له تهمة التشبيح والتعامل مع النظام، ويأمر الجلاد بضربه أو شنقه، فيقوم الأخير بتنفيذ الحكم مباشرةً في مشهدٍ تمثيلي يبدو العنف سمةً بارزةً فيه.

ألعاب الأطفال في الأعياد ظلت حاضرةً، لكن الملفت في بعضها أنها مصنوعة من مخلَّفات الحرب، بعد أن قام بعض الحدادين بإعادة تدوير بقايا القنابل والصواريخ وتحويلها إلى ألعاب، وطلائها بألوان زاهية تعطي البهجة للأطفال، حيث تركّب عدة صواريخ أعيد تدويرها على قاعدة، ويصعد بها الأطفال، ويقوم شخص بدفعها ليجعلها تدور.

آثار نفسية خطيرة تستوجب العلاج

“جيل الثورة” تعرض لآثار سلبية كثيرة جعلت مستقبله في خطر، وأكدت منظمة “أنقذوا الطفولة” في تقريرٍ لها العام الماضي، أن الحرب في سوريا زادت خطر الانتحار وأمراض القلب والسكري والاكتئاب لدى الأطفال على المدى الطويل.

وأشارت المنظمة الدولية الى أن أعراض اضطراب شديد في المشاعر ظهرت على بعض الأطفال، يُعرف بـ “الضغط النفسي السام”، والذي قد تدوم آثاره على صحة الأطفال النفسية والجسدية مدى الحياة.

وقالت الاستشارية النفسية ياسمين علو إن “الجيل السابق للحرب كان يعيش حياةً مليئةً بالاستقرار والهدوء من بداية الحمل إلى غاية النشأة، عكس الأطفال الذين ولدوا خلال الثماني سنوات الماضية، فهؤلاء نشأُوا وسط الحرب التي تستهدف الأطفال بشكل أساسي من حيث العنف الجسدي والنفسي وعدم الاستقرار والخوف الملازم لهم بأغلب حالاتهم، فضلاً عن القصف والانفجارات التي تسبّب لهم بإصابات جسدية متفاوتة”.

وأوضحت ياسمين أن “أهم التأثيرات النفسية التي تصيب هؤلاء الأطفال، هي اضطرابات النطق (التأتأة -البكم الاختياري)، التبول اللاإرادي، القلق والتوتر والخوف، الانطوائية، عدم الثقة بالنفس، إضافةً إلى العدوانية التي تصاحب الأطفال الذين قاموا بحمل السلاح”، مشيرةً إلى أن “آلية العلاج تختلف من حالةٍ لأخرى، لكن الآثار النفسية التي تحدث نتيجة إصابات الحرب، كفقدان أحد الأطراف أو الإصابة بالعمى، فإنه يصعب علاجها، وتحتاج جهوداً أكبر وعلاجاً طويل الأمد”.

وتابعت ياسمين “أما باقي المشاكل النفسية فيتم علاجها عن طريق جلسات سلوكية معرفية وتطوير مهارات، بعد أن يتم تأمين المتطلبات الأساسية للأطفال، وهي الاستقرار والأمان المنزلي ودخول الطفل إلى المدرسة ليعود إلى الاندماج مع المجتمع”.

كما أن البارز في آثار الحرب انتشار ثقافة الكراهية والحقد لدى بعض الأطفال، ويرى الباحث الاجتماعي خالد سميح، أن “انتشار الكراهية يعود الى عدة أسباب، منها مشاهد الدمار والموت التي يتعرض لها الطفل مباشرةَ أو يشاهدها في وسائل الاعلام، إضافةً إلى ظروف الحرب القاسية من قتلٍ ونزوحٍ وجوع”.

وأضاف سميح أن “من الأسباب التي أدت أيضاً إلى انتشار الكراهية والحقد بين الأطفال فقدان أحد أفراد العائلة، وتعرض الكثير من الأطفال للاستغلال الجنسي، والضرب والإهانة من أرباب عملهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم، سواءً من تعليم أو عيش حياة آمنة، إضافةً إلى أن الأطفال باتوا يرثون ثقافة أهلهم وتقاليدهم التي قد تكون مشبعة بالحقد والكراهية”.

وأشار سميح إلى “ازدياد السلوك العدواني لدى الأطفال في المؤسسات التعليمية وطغيان العنف على تصرفاتهم وتعاطيهم مع أقرانهم، حتى تحولت ألعابهم إلى لعبة الحرب، وأضحى المسدس البلاستيكي صديقهم المفضل، فضلاً عن زيادة سلوكهم التخريبي وتكسيرهم لأثاث المدرسة”.

ألعاب أطفال في الغوطة الشرقية خلال فترة الحصار بينها ألعاب مصنوعة من بقايا الصواريخ -إنترنيت
ألعاب أطفال في الغوطة الشرقية خلال فترة الحصار بينها ألعاب مصنوعة من بقايا الصواريخ -إنترنيت

وفي ظل تعدد مسببات انتشار الكراهية بين الأطفال، يرى تقرير منظمة “أنقذوا الطفولة” الدولية، أن الطريقة الوحيدة لإبطال الضرر اللاحق بالأطفال في سوريا، هي وضع حد للسبب الجذري لضيقهم، أي إيقاف العنف المستمر والقصف.

بينما أفاد الباحث خالد سميح “بوجوب اتباع عدة خطواتٍ، منها إبعاد الأطفال قدر الإمكان عن المؤثرات التي تزرع بذور الكراهية، وغرس قيم السلام والتسامح، وحمايتهم من الاستغلال وتوفير ملجأ آمن لهم، وتوفير متطلباتهم وتأهيلهم وإعادتهم إلى مقاعد الدراسة، ومراقبة الطفل وسلوكياته والأقران الذين يخالطهم، وتجنيبه التعرض للضغوط المحيطة قدر الإمكان”.

وأضاف سميح أنه “من الضروري تعزيز دور الجمعيات والمنظمات التي تعمل في مجالات حماية الطفل من أجل مساعدته على الاندماج في المجتمع، وتفعيل دور الأهل وتوعيتهم في تعديل سلوك الأطفال، إضافةً إلى القيام بحملات توعية للأهل والأطفال عن أهمية التسامح، وتوجيه هذه الحملات إلى الأطفال في المدارس بغرض تعديل السلوك العدواني لديهم، وإشراكهم في نشاطات جماعية تعزز المحبة والتعاون بينهم”.