حملت لأمي خبراً مفرحاً في عيدها، قلت لها إني سأهاجر، أوراق سفري الآن معي وعلى الواتس آب أرسلت لها صورة عن وثيقة السفر لمرة واحدة خلفها “الفيزا”، أمي التي لا تجيد القراءة اكتفت بالتعليق أنّ صورتي قد تغيرت عن آخر مرّة رأتني بها منذ عامين، وأن ذقني قد امتلأت بالشيب.
منذ أعوام سبقت الثورة كنت أهدي السيدة العجوز في عيدها، “قطعة من الذهب” لا ترتديها، كانت تخبئها في صندوق خشبي لا أعرف له عمراً، فمنذ ولادتي وأنا أراه مركوناً هناك، يحتوي محارم مطرزة وعطراً برائحة العنبر ومسبحة خضراء ومكحلة نحاسية وهدايا عيدها الذهبية، وخلال سنوات الثورة باعت أمي كل مصاغها لتصرفه علينا، وحين قررت شراء قطعة ذهبية لها في هذا العيد، طلبت مني أن أرسل ثمنها، كي لا نخسر الصياغة.
حين قبلت يديها منذ عيدين مضيا، كانت نازحة من بيتها في مدينة حلب، قالت إنه العيد الأول لها ومنذ ولادة أخي الذي يكبرني بسنة واحدة الذي تفارق به شتلات الحبق الموزعة على شرفتها، وسألتني إن كان بالإمكان أن أرسل أحد أصدقائي القدامى الذين كانوا يملؤون غرفتي قبل اختلاف الخنادق لسقايتها، لم أستطع إخبارها أن منزلها اليوم بزهوره بات هباء، وأن الحبق لم يعد يزين الشرفات في المدينة، بل بات يسكن قبور أصحابه.
في العيد الذي يليه قالت لي أمي عند معايدتها إن أخي لا يزال معتقلاً منذ ثلاثة أعياد وستة أشهر وسبعة أيام، وإنها تفتقد لرائحته، وإنها تعلّمت الحساب على الأصابع لعدّ أيام غيابه، بعد أن أمضت خمسة وستين عيداً أميّة لا تجيد الحساب.
أعياد كثيرة مرّت حاولت فيها مراراً أن أشرح لوالدتي أن جارتها ذات الأصول الكردية لا تخرج للاحتفال في هذا اليوم بعيد الأم، دون جدوى، كانت دائماً تخبرني أن أولاد جارتها أكثر محبة منّا لوالدتهم، وأنهم يرتدون أجمل ملابسهم ويصحبونها معهم إلى مكان لا تعرفه للاحتفال. كانت تقول لي دائماً أن أحاول البحث عن أخبار رفيقتها دون أن أستطيع إخبارها أني لا أستطيع الذهاب إلى هناك، أخيراً أخبرتها أنها هي الأخرى نزحت من قريتها في عفرين ولا أعرف لها عنواناً جديداً.
تبدأ أمي يوم عيدها بعد صلاة الفجر بالدعاء لنا، كثيراً ما صدفتها تجلس على الشرفة رافعة يديها إلى السماء بكلمات أعجز عن تذكرها، كانت تناجي الله أن يحفظنا جميعاً لها. في السنوات الأخيرة التي قضيتها معها كانت تكرر ما كانت تفعله في كل يوم. كعادة الأمهات يعرفن طرق الوصول إلى الله ويستشعرن الخطر.
عيدها كان اليوم الوحيد الذي تشعر فيه بالامتلاء، تنظر إلى والدي بشيء من الزهوّ، إذ لا عيد له تعرفه في أوراق “الرزنامة”. ومنذ رحل والدي كانت تكتفي بالنظر إلى صورته بكثير من الحنان وكأنها تطلب منه السماح لها بتكرار هذا الشعور.
لا أمهات اليوم يحتفلن بعيدهنّ في إدلب المخيمات، الخيام لا تصلح لإشعال الشموع وبائع “الكاتو” بعيد جدّاً. الكهرباء المقطوعة حرمت الفتيات من مفاجئة والدتهن بقدرتهن على صناعة العيد فالفرن يحتاج وحده إلى عشرة أمبيرات لإشعاله، والنزوح حالَ دون معرفة وجوه الباعة ومحاولة شراء الهدايا منهم بالتقسيط، أما أن تقبل أيدي أمك ورفيقاتها في الطريق فقد يتسبب لك بتهمة “الفعل المنافي للحشمة”.
كانت حصة عيد الأم الصباحية اليوم في سوريا، مقتل خمسة أشخاص بينهم أربعة أطفال من عائلة واحدة في بلدة الفقيع بريف إدلب، الأمّ نجت في عيدها لتشيع أطفالها، لا أعرف كيف ستمر تلك المناسبة مجدّداً عليها، إن مرّت. والكثير من صور الأطفال المحروقة في الباغوز بطيران التحالف. وفي الريف الشرقي من حلب هدايا بأعلام هلالية حمراء صغيرة لم تألفها الأمهات بعد.