“لا يمكن لأحد أن يعي معنى الخوف الذي نعيشه” تقول نورية من مدينة خان شيخون التي “تُقتل في كل يوم” ومنذ ما يزيد عن الشهرين، تصف السيدة ما يجري هناك بوجه حانق، مليء بالحزن.
مئات الصواريخ والقذائف تستهدف المدينة، أحصينا 84 صاروخاً في يوم واحد، تروي نورية، تجمّع من تبقى من الأهالي في ساحة الحي، خرجوا من بيوتهم لا يدركون وجهتهم، أخوة وأبناء عمومة وجيران تعوزهم القدرة على اختيار الطريق الذي سيسلكونه للنجاة بأرواحهم، الدموع كان رفيقة المشهد، وبكاء الأطفال طغى على صوت الصمت، أما الرجال فأقعدهم العجز، في تلك الليلة.
جالت ببصرها بين الوجوه، تقول السيدة، هناك سؤال كان يلحّ عليها. حاولَت مراراً البحث عن إجابة له دون جدوى، “كيف نجونا؟” فالصواريخ التي سقطت تكفي لتدمير كل شيء، تلمست جسدها لتدرك أنها ما زالت قيد اليقظة، دقائق قليلة مرّت ببطء سنة، قبل أن تعاود القذائف استهداف المدينة، هذه المرة كانت الساحة هي الهدف، لم نعد نرى سوى الغبار، وأخيلة تمر بالقرب منا لأشخاص يركضون خائفين في مختلف الاتجاهات، أجساد مستلقية على الأرض دون حراك، آخرون ضموا أطفالهم تحت أجسادهم علّهم يحظون بفرصة للنجاة، الأيدي التفّت حول الرؤوس، والصراخ بالأسماء يملأ المكان.
حرارة الدماء التي بدأت تسيل من ساق نورية أيقظت فيها الألم، كانت الشظية قد أحدثت ثقباً في ساقها الأيسر، مفتتة ما اعترض طريقها من عظام.
في الطريق المتعرج بين خان شيخون شرقاً وقلعة المضيق في الجهة الغربية، ملامح لخذلان جديد وقلة حيلة يحملها العابرون بين قذائف الأسد، تلتفت هدى إلى بيتها في قلعة المضيق، لعلها تودعه، خلال الأسابيع الثلاثة الماضية ودعت هدى منزلها أربع مرات متجهة إلى كفرنبل بريف إدلب الجنوبي، وفي كل مرة كانت قساوة النزوح تعيدها إلى المكان، آملة بالبقاء.
في واحدة من رحلات عودتها وجدت هدى (رشا وعقبة وإبراهيم وحسن)، أطفال من قريتها تجمعوا في غرفة صغيرة، ظنوا أن صغر حجمها يحميهم من الموت القادم من سماء الصواريخ، عيونهم الصغيرة كانت تلمع في عتم تلك الليلة، خلف الجدار كانت أناملهم ترتعش، وتصطك أسنانهم، حاول عقبة (أكبرهم سناً) أن يجمع فكيه بيديه الصغيرتين، علّها تتوقف عن الرجفان والطقطقة والخوف في آن معاً، أثقل المشهد قلب هدى، “من يهتم!” سألت نفسها وهي تحاول تخفيف هول ما يحدث في قلوب الصغار البريئة، في الصباح سلكت بأطفالها طريق النزوح من جديد.
لملم أبو عبد الرحمن (من قرية اللطامنة بريف حماه) جراحه، بعد أن دفن طفله البكر في البستان الذي يملكه، والذي شهد كل خطوة وضحكة لطفله قبل أن تقتله قذيفة هاون عمياء، هذه المرة أتى الموت من حاجز حلفايا الجارة المحتلة.
قبل أن يبدأ بعمله في كل صباح يمر أبو عبد الرحمن بقبر طفله، وينتهي مساؤه هناك أيضاً، يروي له الحكايا عن هدنة كاذبة وأطراف متنازعة وضامن يحمله مسؤولية قتله. يرفض الرجل النزوح، يقول إن الحياة لم تعد سوى “أرقام”، أرقام لن تنتهي أبداً، فالأرواح بلا ثمن هنا.