تكمن أهمية الأفلام التي تنتجها الحرب بمادتها الخام من التصاق مشاهدها وصورها بالحياة اليومية. العادية من يحكم المشهد ويعطيه صفة التأثر والتأثير ما يغنيك في كثير من الأحيان عن الموسيقا التصويرية، وحتى عن الحوار الذي يكمله المشاهد دون انتظاره من شخوص الفيلم، شريطة أن لا يبتعد عن الحقيقة ومراعاة الجغرافيا، وهو ما دفعني لحضور فيلم “كفرناحوم” منذ أيام، وخلال وصوله إلى دور العرض التركية.
كـ سورية أردت فعلاً تهيئة نفسي لمشاهدة الفيلم بذاكرة ممتلئة حرصت فيها على إجبار نفسي بواقعية على تقبّل ما سيحدث، حتى وإن خالف الحقيقة أحياناً، أو مارس فيه المخرج واحدة من “شطحات” الخيال المبررة، خاصة وأن الفيلم يصنف بعيداً عن الوثائقي، ويعكس كما قرأت عدداً من المشكلات لا يربط بينها سوى جغرافيا المكان، وهو ما دفعني بداية للبحث عن معنى للاسم الذي حمله.
“كفرناحوم” مدينة فلسطينية ورد ذكرها في الإنجيل تستخدم الكلمة في الإشارة إلى الفوضى، وهو عنوان اختارته المخرجة اللبنانية لفيلمها الذي رُشح لجائزة غولدن غلوب وأحد الأفلام المشاركة في مهرجان “كان” السينمائي لعام 2018.
بعض المقالات ومديح على الانستغرام من قبل الإعلامية الأمريكية الشهيرة أوبرا وينفري، ومشهد لمخرجة الفيلم تداولته وسائل الإعلام وهي تزغرد بعد ترشيح فيلمها لجائزة كان، وارتباط اسم المخرجة عندي بالإعلانات وبعض كليبات نانسي عجرم، هو كل ما استطعت التفكير به خلال انتظاري للعرض، قبل أن تظهر “لبكي” كمحامية للطفل “زين” الشخصية المحورية في الفيلم.
يمكن لأي قادم إلى بيروت أن يلحظ من الطائرة عشوائيات المساكن الملاصقة لمطار العاصمة، تحدد جغرافيتها عجلات مطاطية وشرائط غسيل محملة بثياب لا لون لها، جلعتها لبكي لقطتها الأولى لتحدد بيئة قصتها. جملة “زين” في بداية الفيلم لخصت الرسالة في عمل استغرق ساعتين “بدي أتبرأ من أهلي”. الجديد في العرض كان التصوير بطريقة وثائقية، عبر استخدام أسلوب الخطف نحو الوراء في تسلسل عرض الأحداث.
زين طفل في الثانية عشرة من عمره يقيم مع عائلته في بيروت، لا شيء يثبت هويته سوى كمّية الديون التي جعلت من أبيه سكيراً، أما أمه فقد حدد ملامحها طريقة تعاطيها وهي تسعى لتزويج ابنتها بُعيد بلوغها بأيام!
الكاميرا تجول في بيئة تصوير متسخة، مياه المجاري تطفح من كل صوب. هي بيروت التي لا تشبه أي مدينة أخرى، حين تجمع كل التناقضات، لتختفي عن كاميرا المخرجة بيروت “الأُخرى”. في فيلم “كفرحانوم” نجد بيروت التي تغص بالمهاجرين غير الشرعيين والمجسدة في شخصية “راحيل” العاملة الإثيوبية، والتي تلتقي “زين” بعد هروبه من عائلته.
يصور الفيلم بيروت بشرطة ورجال أمن “لطفاء” في تعاملهم مع المهاجرين، لا يشبه أولئك مَن اصطدمنا بهم بدءاً من المعابر الحدودية وصولاً إلى مطار رفيق الحريري، حيث يكفي لأي منا الجلوس في المطار قُبالة بوابة المغادرين وإحصاء عدد اللبنانين القادمين إلى المطار برفقة عاملاتهم الإفريقيات “بأوراق عمالة نظامية” وسط ضرب وإهانة للعاملة وطلب استعجال في معاملة إعادتها من حيث أتت!
في محطة الفيلم الثانية تزداد الأحداث سوءاً بحبس الأم “راحيل” اللاجئة غير الشرعية، وترك ابنها يونس “برقبة” “زين” الطفل، الذي يقرر اصطحاب الرضيع معه إلى جسر الكولا، المكان الذي يستحيل معرفة لونه بعد أن حولته أدخنة السيارات إلى مركز لانطلاق البولمان وفسحة للتسول أيضاً، كان زين يجتمع بأقران مهنته وظروفه، إحداهن طفلة سورية بائعة، لا يميزها عن زين سوى لهجتها، بُعيد أيام يعاود رؤيتها كانت قد تزينت بقرطين من الذهب، أسأل نفسي “هل تحسن وضعها؟”، تخبر “زين” أن السويد ستكون وجهتها مع عائلتها، تطمئنه أنها ستترك له ميدان التسول دون أن تزاحمه بعد الآن، وهو ما يعكس رغبة الكثير من السوريين على حد قولها، ولو على محمل السخرية. تختتم وداعها لـ “زين” بنصحها له باللحاق بها إلى السويد، علّه يشتري مستقبلاً في بيئة نظيفة بعيداً عن مجاري الصرف الصحي في بيروت.
نقطة أخرى كانت في مرمى من يتسلق على معاناة اللاجئين السوريين في دول الجوار، عكست لبكي مسعى “زين” للحصول على مساعدات له ولـ “يونس” عبر محاولاته المتكررة لمجاراة اللهجة السورية، ملفقاً الكثير من الكذب حيال درجة قرابته بيونس الإفريقي الذي يدعي أنه شقيقه!
قبيل الرحيل إلى السويد يعود “زين” إلى عائلته للحصول على ما يثبت هويته، فيصطدم بأبيه السكير ووالدته التي “زلق” لسانها بوفاة ابنتها جراء حملها. فجاء المشهد الأخير بجناية يرتكبها “زين” بحق زوج أخته بطعنة في بطن الفخذ أقعدته على كرسي متحرك، ليصبح على إثرها وراء القضبان منسياً مع الكثير من المهاجرين غير الشرعيين.
كسورية كنت بين جموع الأتراك الحاضرين للفيلم، لم أكن أنتظر أي جديد أو مفاجأة يقدمها الفيلم، ونحن السوريون أكثر الناس دراية بواقع الحياة على أرض لبنانية وإن كانت حدودية في زمن الحرب واللجوء. في الوقت الذي تصور فيه لبكي أصحاب البدلة العسكرية وحماة الوطن “مخلِصون” استذكرت أصحاب البدلة عينها من آثروا التحرش بي كـسورية بحجة مساعدتي في زيارة خاطفة إلى بيروت لم تستغرق 18 ساعة، بدءاً من أمن المعبر، إلى أمن السفارات وصولاً إلى أمن وزارة الداخلية!
تحاول المخرجة اللعب على وتر الأمل بمستقبل أفضل وإعلام توعوي استقبل اتصال “زين” من السجن، هو ذاته الإعلام الذي اعتاد “كل كم شهر” الخروج بـ “فنة” صحية أو سياحية أو اقتصادية سببها السوريون خلال لجوئهم، متناسية ربما دور السلاح اللبناني في الحرب السورية، بحجة “الدفاع عن المقدسات” هجرت وشردت مئات الالاف التي انتهت إليها لبكي بخلاصة “إيقاف إنجاب الأطفال”!
إن كان هدف لبكي تسليط الضوء على معاناة الأطفال، فأحمد الزعبي ماسح الأحذية السوري واللاجئ مع عائلته إلى بيروت، أقرب الأمثلة وأكثرها حداثة في الشارع اللبناني، فمطاردة الأمن اللبناني “اللطيف” حد إخافة الطفل دفعه للهروب والموت، فأين مسؤولية العائلة من الواقعة لطالما أن العائلة في نظر لبكي هي الجاني الأول والمخلّص هو الأمن؟! ألم تتبدل الأدوار بعيداً عن الكاميرا؟
بدا الفيلم الروائي بنكهة وثائقية، أبطاله من فئة القاع، كثفت فيه لبكي المشاكل المجتمعية بالخطوط العريضة: تسول، عمالة أطفال، اتجار بالبشر، لجوء، زواج قاصرات، وقادته بشكل فارغ من سياقه، لم نفهم من خلاله الطريقة التي وصلت فيها عائلة “زين” إلى هذا الحد من البؤس. والغريب أن ما سبق ذكره هي مشكلات يعاني منها المجتمع اللبناني قبيل الثورة السورية وموجة اللجوء إلى دول الجوار، فلماذا طفحت إلى سطح السينما كل ما تعانيه بيروت دفعة واحدة، والآن؟ أم هو مجرد اهتمام إعلامي وهوس لبناني معتاد في وصول أي منتج له إلى العالمية؟
عالمية سوقت لها أوبرا وينفري في نشرها لصور زيارة نادين لبكي برفقة زوجها المنتج خالد مزنر إلى منزل وينفري، داعية متابيعها لمشاهد الفيلم “الذي لازلت أستذكر مشاهده” بتلك العبارة ختمت التعليق على زيارة لبكي.