ترتصف الحجارة الصغيرة في شوارع الحي القديم، لتجبرك على المضي قدماً في الأزقة المتوجة بالقناطر، تجول ببصرك في المكان. بعد التقاط أنفاس الدهشة يطالعك دكان زُينت جدرانه بالسجاد والمنسوجات الصوفية، بألوان متداخلة ورسوم طالما رافقت ذاكرة البيوت القديمة، دون تردد تسوقك قدماك إلى دكان “فؤاد قدح نون-أبو عبدو”، في مدينة أريحا بمحافظة إدلب، وتحديداً بالطرف العلوي من الحارة القديمة، بمهنته التراثية، صناعة السجاد والكثير من الأشياء على النول اليدوي القديم، والتي ورثها منذ كان ابن عشر سنوات عن عمه ووالده هو وباقي أخوته، ليبدأ بعد تمكنه منها رحلة عمله الخاص في دكانه الذي لم يبارحه منذ ذلك الوقت، والذي يضج بالعمال و “الصنايعية” كما يطلق عليهم.
يحملنا أبو عبدو إلى عالم “الأنوال” وتطورها مع الزمن، والنول خشبة الحائك وآلته ينسج ويلف عليها القطع كما عرفه لنا، جميعها ما زالت حاضرة في ذاكرته وهو يقلب بيديه بعضاً من منتوجاته، يطلب إلينا أن نلمسها كمن يحتفظ بتحفة قديمة، ثم يحكي لنا إنه ما زال يحتفظ في منزله بالنول الخشبي القديم يقول إنه إرث العائلة منذ أكثر من مئة وخمسين عاماً، مرّت عليه أيادٍ وأجيال ووجوه وعرق وخرجت منه تحف ومصنوعات حضرت في معظم بيوتات المنطقة، وسافرت إلى بلدان كثيرة كان أهلها يقصدون المكان للحصول عليها.
لم يعد هناك نول خشبي غيره في المنطقة يقول أبو عبدو، وهو مصنوع بكامله من الخشب، حجمه الكبير يفرض علينا تخصيص غرفة خاصة به بعد حفر أرضيتها كـ “قبر” بطول متر ونصف المتر، يوضع النول بداخلها كي لا يتحرك أو يهتز، ويثبت في الأرض بـ “غرزات” وتصب زواياه بالإسمنت، وعند نقله عليك أن تهدم الإسمنت لتخرجه من الحفرة.
النول الآخر الذي يحتفظ به أبو عبدو هو “النول الخشبي مع الحديد”، ويرتفع عن الأرض حوالي متر ونصف المتر، تُفكّ قطعه وتُركّب، ويُنقل من مكان إلى آخر بسهولة، يشرح الرجل الذي قال إنه يحتفظ بـ نولَين من هذا النوع أحدهما يزيد عمره عن أربعين عاماً، أما الآخر فلا يزيد عمره عن خمسة عشر عاماً.
ما زالت أنوال أبو عبدو بحالة جيدة، فهو دائماً ما يطلب من ورشات الحدادة والنجارة تصميم قطع بديلة لإصلاحها، بعد أن توقفت صناعتها منذ فترة طويلة.
يشير أبو عبدو إلى النوع الثالث الذي أطلق عليه “النول الحديث –الآلي” والذي يعمل على الطاقة الكهربائية، يُنقل بسهولة، ويُظهر رسومات أكثر من النول التقليدي وبوقت أقل، إلا أنه مرتفع الثمن.
بكلمات لا يفهم معناها سوى أبناء المهنة يكمل أبو عبدو الحديث عن خيوط القطن مع الحرير “للسدى” وهو لفظ يطلق على الخيوط الطولية أما الأفقية فيطلق عليها “لحمة” ويعتبرها أساساً لكل قطعة يصنعها، وخيوط “المخمل والدرلون” والتي توضع فوق “السدى”، و”الأكروليك” لخياطة القطع بعضها ببعض بعد الانتهاء من حياكتها على النول.
يذكر أبو عبدو قدم هذه المهنة في مدينته أريحا، والتي كان يعمل بها أكثر من مئتي عائلة، بدءاً من حلج/ غزل الصوف وشعر الماعز على دولاب الغزل، نتف شعر الماعز وتحويله إلى صوف، يبرم بعدها على “المردن” ليصبح خيطاً يسلّك على جهاز يدعى “الطيار” يوضع على النول لتحاك منه القطعة المطلوبة بعد مروره بعدة مراحل. وكان يوجد في أريحا إلى وقت قريب أكثر من خمسين مغزلاً، كل واحد منها يؤمن عملاً لحوالي عشر عائلات بين “مدور ومسدي وخياط للقطع”، فالسوق مزدهر وكثير من الناس يعملون بحياكة بيوت الشعر للبدو والبسط والسجاد والمفارش.
ويقال إن أول من صنع النول الخشبي هم الدمشقيون، وإن أقمشة البروكار والدامسكو والأغباني لم يعرفها أحد قبل دمشق، وخاصة سكان دوما، إلّا أنها اندثرت بعد تهجير قوات النظام لسكانها الذين باعوا بضائعهم منذ أكثر من خمس سنوات تاركين مهنة أجدادهم، يضيف أبو عبدو الذي قال إن مهنته اليوم تمر بظروف قاسية وصعوبات جمة، أهمها تأمين الخيوط من مناطق سيطرة النظام في دمشق وحلب، وغلاء أسعارها التي ربطها التجار بالدولار الذي كان يتأرجح خلال السنوات الماضية، إضافة إلى التعامل مع مسيّر بضائع يشتري لنا ما نحتاجه ويأخذ الثمن، بعد تكرار لعمليات نصب واحتيال تعرض لها الصناعيون في المنطقة، “فبعد تحويلنا للمال لا تصلنا البضائع، أحياناً تصل نصف الكمية المتفق عليها، هم يتحكمون بنا لمعرفتهم باستحالة الذهاب إلى هناك والمطالبة بثمن البضائع”، في المقابل يقول أبو عبدو إن هناك تجاراً للخيط “ساعدونا ولا يزالون حتى اللحظة يقدمون لنا المساعدة”.
توقف العديد من أصحاب هذه المهنة عن العمل منذ سنوات بسبب ظروف الحرب، وهو ما دفع أبو عبدو لضم “الصناع” الذين ورثوا المهنة عن آبائهم للمحافظة عليها، والتعاون مع محلات أخرى، حين تستدعي الحاجة وتتوفر الطلبيات المستعجلة، وتطوير مهنة النول لتدخل اليوم في ديكورات المنازل وفرش غرف الضيوف واللوحات الفنية والساعات والستائر وساعات الحائط وصواني تقديم الضيافة وبيوت الهواتف المحمولة وغيرها الكثير…
وتتميز منسوجات النول اليدوي بمتانتها وجمالها، يضفي عليها أبو عبدو ذائقته الفنية بمزج ألوان الخيوط والرسوم الجديدة، وصناعة “تحف” فنية مما علق في ذاكرته وخبرته خلال السنوات الماضية، وما يتعلمه من رسوم جديدة في كل يوم، يقول إن زوجته دائمة الشكوى والضجر والسؤال عن قدرته على تحمل تلك الخيوط المتشابكة، يجيبنا أبو عبدو أن تلك مهنة لا ينتهي علمها وتحتاج للمتعة والحب، فقط عشاقها من يمكنهم الاستمرار والإبداع فيها، لما تحتاجه من تركيز وحفظ للنقوش وذائقة خاصة.
لا يمكن لكبار السن تعلّم هذه المهنة، يقول أبو عبدو الذي يحاول تعليم عدد من اليافعين أصول العمل على النول، بينما يدرب في الوقت ذاته عشر سيدات من الأرامل في مدينة إدلب، بطلب من سيدة سورية من المحافظة متزوجة من رجل تركي، قال إنها بحثت عنه لأكثر من أربعة أشهر لتكليفه بالمهمة التي قبلها لمساعدة هؤلاء النساء على العمل وتمكينهن من مهنة لإعالة أطفالهن.
شهر ونصف الشهر مضى على تدريب أبو عبدو للنساء اللواتي أصبحن اليوم قادرات على صناعة المنسوجات على النول، دون نقوش، يقول أبو عبدو إن المنتجات التي يصنعنها تقوم السيدة السورية ببيعها في تركيا، وتقديم ثمنها للنساء، وأن طلبيات جديدة وكثيرة لقطع من التراث السوري وأخرى لبضائع تركية كالأعلام والبراويز وقطع المطاعم التي تحمل أسماؤها وبعض اللوحات الدينية التي تقوم بتصميمها معلمة فنون جميلة ترخرف بخرز ملون بأيدي أولئك السيدات، وتباع في الأسواق التركية، ريثما يتعلمن ويستطعن افتتاح مشاريعهن الخاصة.