غيّر نهر قويق ذاكرة المدينة، واستبدلت النكات القديمة المليئة بالسخرية بأخرى موجعة، حكايات اشتركت فيها معالم الطبيعة في حلب مع جلادها في زيادة الحزن، كيف يمكن أن يُدان الماء هذه المرة، وكيف يشترك النهر مع الحديقة في إيصال جثة، لم تبدو عليها علامات الاختناق، لم تكن زرقاء، ولم تُغسل وجوه وأجساد ضحاياها، بل تركتهم يغطّون في الوحل والقهر، بعضهم بجروح ما زالت حارّة ساخنة، وأخرى غابت معالم وجوهها.
حين ذاع الخبر صباح 29/1/2013 عن جثث تملأ نهر قويق الحلبي، كان الطريق للوصول إلى هناك، من حي طريق الباب إلى مكان انتشالها في حي بستان القصر، مشياً على الأقدام، يتجاوز الساعة، مشاهد متخيلة مرّت في خاطري، تركت لنفسي حرية التفكير دون أن آبه لمعالم الطريق، فخريطة المدينة مرسومة في عقلي دون أن أتيه.
مشهد العقاب الذي نلته على يد والدتي يوم كنت صغيراً أعيش بالقرب من نهر قويق الذي يمر بالقرب من بيتي في مخيم حندرات، كان حاضراً بقوة، استنشقت الرائحة النتنة التي كانت تفوح مني وأنا أحاول عبثاً أن أتعلم صيد السمك في النهر الذي تحوّل إلى مستنقع، وشعرت بصفعة أمي على وجهي الصغير.
“السُكر”، أو كما كنا نطلق على نوع من النباتات التي نمت على طرفي قويق، والتي كنا نقطعها بسكين نسرقها من منازلها، ونقشر جلدها الغليظ، لنمتص السائل الناتج منها، أيضاً كان مشهداً حاضراً، وكيف كنا نترنح بعدها كالسكارى، حقيقة أني لم أنتشي يوماً بطعم هذا السائل، وإنما كنت أمثل هذا الدور أمام أقراني تجنباً للسخرية التي كانت تطال من لا ينتشي.
شلّال المياه الذي أنشئ بالقرب من مخيم حندرات أيضاً، في عام 2008، كان جزء من المشهد الذي بدأ يكتمل في داخلي، أذكر كيف تحول المكان المليء بنقيق الضفادع والصرف الصحي والمياه الآسنة، إلى اللون الأزرق، بعد تزويد قويق بالماء من ساقية في نهر الفرات، وكيف تحوّل النهر العجوز القذر إلى مصيف للفقراء والبسطاء وبسطات الباعة الجوالين ومناقل الشواء، ليكمل مسيرته بالمرور في شارع الشلال بمنطقة العزيزية، مع كثير من الأضواء المنعكسة على زرقة الماء، في مشهد يضم على ضفافه كثر من أهالي المدينة، وهم يأكلون “البوظة” من محل سلورة القريب. مروراً بالحديقة العامة أهم معالم حلب وملجأ الفقراء في “سيارينهم الصيفية”، ليكمل النهر بعدها سيرته الذاتية في حديقة الشهباء شمال حي بستان القصر ليمر عبر الأحياء الفقيرة، هذه المرة دون أضواء.
الحديقة العامة التي أنشئت في عام 1947 بعد أن أعاد مجد الدين الجابري، وكان وقتها رئيس بلدية حلب، ملكية الأراضي التي كانت تعرف بـ “النافعية” إلى الأهالي باستملاكها من أقربائه وبناء حديقة تكون لكل الحلبيين وسط المدينة في المنطقة الفاصلة بين حيي العزيزية والجميلية، وأذكر ما قرأته عن كلمته الشهيرة “هذه ملك حلب أخذها جدي نافع باشا هدية من السلطان العثماني وأنا أعيدها لسكان حلب”.
في الطريق كانت أعداد الجثث المنتشلة من النهر في ازدياد، المارة في ذهول، يستوقفك أحدهم ليقول لك “صارو 20″، آخر يقول “صارو 30″، وفي كل مرة يستوقفك فيه أحدهم يعيد ترتيب المشهد في مخيلتك من جديد.
عند الوصول إلى جسر السنديانة بالقرب من حي بستان القصر، في المكان الذي ظهرت فيه الجثث، كان منسوب المياه عالياً، لم تكن المياه هذه المرة هدية من الله، بل كانت رسائل من قوات الأسد، لنا نحن الواقفين في الضفة الأخرى، يفصل بيننا “معبر الموت” كما كان يطلق عليه، ويحرسه قناصو الإذاعة والقصر البلدي.
لم تكن الجثث التي وزعت على طرف النهر ترتدي ستر النجاة من الغرق، لم يتح لها التلويح بيديها في الهواء علّها تنجو، كانت ملامحها غائبة مليئة بالطين، معظمها مكبل الأيدي للخلف، بعضها وضع على فمها أشرطة لاصقة، وعلى عيونها “طماش= قطعة قماشية تغطي الأعين”، جثث حافية وأخرى بأحذية دون أربطة.
بـ “سيخ من الحديد” أو الخشب كانت تلتقط الجثث التي تمر من أمامك، لا سنارات صيد تكفي لانتشال جثة، على الممر الاسمنتي بالقرب من ضفة النهر كانت أعداد من تلك الجثث مسجاة على الأرض، ليس ببعيد عنها كانت بعض أشيائها موضوعة في المكان، ليس للموتى أمانات يستردونها، أحذية وحيدة كانت تلخص قصة موت مجهول الهُوية، والجميع كان بلا أوراق ثبوتية.
عربات خضار تكفلت بالرحلة الثانية إلى ساحة المدرسة القريبة، مراراً حاولت أن أتمالك نفسي التي كان يضج فيها سؤال عن شعور الموتى حين يسير بهم الماء وتلتقطهم أسياخ الحديد وينقلون على عربات الخضار إلى الساحات، لا لشيء سوى ليتمكن ذويهم من التعرّف عليهم.
أكثر من 70 شهيداً كانت حصة اليوم الأول من الجثث، والتي استمرت بالوصول على أيام، ليزيد العدد عن 200، شباك صيد وضعت في مجرى النهر لاحقاً، الصيد كان وافراً في اليوم التالي 23 جثة والذي يليه 20…
معظم الجثث أفرغت من رؤوسها بطلق ناري في الرأس من مكان قريب، لا نعرف إن كانت قد قتلت في المعتقلات، إلّا أن أحاديث دارت أن قوات الأسد كانت تكبل المعتقلين على سور الحديقة العامة بالقرب من مجرى النهر، تطلق رصاصة في الرأس، وتسقط الجثة في الماء.
في ساحة المدرسة مئات الأشخاص من أهالي المفقودين ليتعرفوا على جثث ذويهم، يقلبون الموتى غائبي المعالم، يحاولون استجماع قواهم واستحضار ما بقي من صلابة في قلوبهم، قمصان الموتى وأحذيتهم وبقايا ندبات قديمة كانت الشهود على انتقال الجثة من رقم مجهول ينقل إلى حديقة القباقيب في بستان القصر ليدفن في حفرة جماعية، إلى قبر باسم دون رقم.
بينما غصّت مكاتب التوثيق بالقادمين للبحث عن أملٍ بأن لا يكون لمن فقدوه صورة بين الجثث، صرخات تشق السماء أطلقتها نساء ممن تأكدن من صورة فقيدهم، في الوقت الذي غدا فيه التقليب بين صور الجثث أمراً شبيهاً بالموت وربما كان أكثر صعوبة.
معظم الجثث التي تعرّف ذووها عليها كانت لبسطاء وعمال وموظفين، نجوا من قناص معبر الموت لتأمين قوت أهاليهم، بعضهم أطفال لا يتجاوزون الثالثة عشر من العمر، أُخرى لمسنين تجاوزوا الستين، وبينهما موظفين وعمال غابوا منذ أيام قليلة عن المنزل، دون معرفة مكانهم.
كيف يمكن للإنسان أن يبحث عن أملٍ بين جثث الموتى. ما زالت كوابيس صورهم تلاحق الجميع، وتستعيد وجودها في كل مرة يذكر فيها اسم النهر أو الحديقة العامة، منذ ذلك الوقت كان قويق والحديقة شركاء في الجريمة والمأساة، لتعود المياه الآسنة إلى مجراه وملكية المكان لأصحابه، لا لحلب وأهلها المشغولين بترتيب ذاكرتهم بعيداً عن الأمكنة، علّهم يستطيعون الحياة من جديد.