“الإعاقة لا تعني نهاية الحياة، صحيح أني فقدت بصري، لكن لديّ البصيرة والعزيمة، وهما كفيلان بأن أصنع المستحيل”، بهذه الكلمات عبّر عبد المعين ياسين أحد المكفوفين الذين طالتهم نار الحرب، عن إصراره على مواصلة تحدي ظروف الحياة لتحقيق أهدافه، ومساعدة من تعرض لإعاقةٍ أمثاله لمواصلة الحياة بتصميم وتفاؤل وخدمة نفسه والمجتمع.
ظروف الحرب من قصف وتشريد واعتقال ساهمت في ازدياد أعداد الذين تعرضوا لإعاقات مختلفة من بتر أطراف أو شلل أو إصابة بالصمم والبكم والعمى، رافقها معاناة نفسية وغياب لجهات ترعى ذوي الاحتياجات الخاصة وتساعدهم في تأمين فرص عمل تعيلهم، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي لهم.
وفي ظل هذا الواقع، افتتح مجموعة من الشباب المثقفين والواعين وذوي الاحتياجات الخاصة جمعية خيرية للمعاقين تحت مسمى جمعية “شغف” الخيرية، لتقديم مختلف الخدمات للمعاقين ورعايتهم صحياً وجسدياً ونفسياً.
مكفوف يتحدى المستحيل
عبد المعين ياسين من سكان ريف حلب، والذي تعرّض للاعتقال من قبل نظام الأسد لخروجه في المظاهرات بداية الثورة، واجه كل أشكال التعذيب قبل خروجه من المعتقل وانضمامه للقتال في صفوف الثورة، تعرض لعدة إصابات تسببت آخرها بفقدان بصره في أيلول 2012.
انضم الياسين، والذي كان طالباً في السنة الرابعة من قسم الآثار قبل اعتقاله، إلى جمعية شغف للعمل فيها، بعد حصوله على الإجازة الجامعية في علم الآثار من تركيا، وإكمال دراسته بحصوله على الماجستير. رغم فقدان بصره يتابع الياسين تحصيله العلمي للحصول
على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة أكسفورد البريطانية”.
ويعتبر عبد المعين عضواً مؤسساً لرابطة أدباء الثورة السورية واتحاد رواد حلب، ويشغل منصب مستشارٍ في مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية، ليس ذلك فحسب بل ساهم في تأسيس سبع جمعيات، بينها جمعية “أيادي مبصرة” لتكون فسحة أملٍ للمكفوفين.
وتهدف جمعية شغف إلى “تحقيق أهداف إنسانية تخدم احتياجات ذوي الاحتياجات الخاصة الطبية والتعليمية والتنموية”، بحسب مدير الجمعية أحمد هلال الذي قال إن الجمعية ووزعت المهام الإدارية بموجب الكفاءات، وبدأت بجمع الإحصائيات لمن تعرضوا لإعاقات خلال الحرب، وبلغ عددهم مئتي مستفيد موزعين على أربع عشرة بلدة وقرية في ريف حلب الغربي قابلة للزيادة في ظل تواصل عمليات الإحصاء.
اندمجت الجمعية مع جمعية “أيادي مبصرة” ليعملان معاً تحت اسم “شغف”، يضيف هلال إن الجمعية تقدم خدماتها لذوي الاحتياجات الخاصة ضمن ريف حلب الغربي وتتخذ من بلدة كفر ناصح مقراً لها.
خدمات إغاثية وطبية وتنموية
تقدم الجمعية الدعم لمستفيديها في المجالات الطبية والتنموية والإغاثية، وتأمين قروض غير ربحية لهم تمكنهم من الاعتماد على أنفسهم بإقامة مشاريع صغيرة، وتستقبل ذوي الاحتياجات الخاصة يومياً من التاسعة صباحاً وحتى الواحدة ظهراً.
وتضم الجمعية ثلاثة أقسام: المكتب الإغاثي، والذي يقدم ثلاثة أنواع من الإغاثة حسب الإمكانيات، “عينية، غذائية، وإغاثة صحية تتضمن تقديم مواد صحية ومنظفات”.
وهناك القسم التنموي للتدريب والدعم النفسي عبر حملات وفرق جوالة لدمج ذوي الاحتياجات الخاصة بالمجتمع، وإقامة محاضرات توعوية، كالتوعية الصحية والنفسية والجسدية، وندوات لتشجيع الناس على التعامل معهم كجزء أساسي من المجتمع، إضافةً الى العديد من الدورات التدريبية.
ويشرف على عملية الدعم النفسي، 14 شخصاً متطوعاً بين ذكور وإناث، والذين يملكون اختصاصات مختلفة، كعلم الاجتماع والارشاد النفسي والتربية والفلسفة وعلم النفس، وبعضهم كانوا يعملون سابقاً ضمن منظمات تهتم بتقديم الدعم النفسي.
كما تضم الجمعية المكتب الطبي، الذي يضم عدة أقسام، منها العينية التي تقدم مختلف الخدمات للمكفوفين، وقسم للإعاقات الجسدية بمختلف أشكالها، وقسم الصم والبكم أو الصم بكم معاً.
ويقدم المكتب الطبي كراسي للمعاقين، عكازات، عصيّ مساعدة للمكفوفين، ومستلزمات طبية كالشاش ومواد التعقيم والأدوية كالمسكنات وأدوية الالتهاب وترميم الجروح والضمادات، وفق ما ذكر مسؤول المكتب الطبي في “شغف” مصطفى يحيى.
دورات للاندماج في المجتمع
وتسعى جمعية “شغف” لتعليم ذوي الاحتياجات الخاصة عدة مهارات تمكنهم من الاندماج في المجتمع، من خلال العديد من الدورات التدريبية، منها دورات تعليم المكفوفين كيفية استخدام الهواتف الذكية، ضمن نظام (الأندرويد والآيفون)، فضلاً عن مهارات الحاسوب ومهارات تقنية أُخرى.
وتم تزويد الجمعية بأجهزة الكمبيوتر والانترنت للتعليم على تقنية “ويندوز” بكافة أنظمته الحديثة، إضافةً لتعليم المكفوفين طرق استخدام نظام “مايكروسفت أوفيس”، واستخدام الانترنت بالتحميل والتنزيل وبرامج التواصل الاجتماعي.
كما يقيم المكتب التنموي في الجمعية العديد من الدورات المجانية في المجالات المهنية والعلمية، كالحياكة وغزل الصوف والحلاقة، وتعليم تقنيات استخدام الهواتف المحمولة ولغة اللمس للمكفوفين.
وأوضح مسؤول العلاقات والمتابعة في جمعية “شغف” عبد المعين ياسين، أن “الجمعية تسعى للتركيز على تقديم الخدمات التعليمية للمعاق، وتشجيعه على استرجاع الرغبة بالتعلم، ومن ثم مساعدته على إكمال دراسته وإعانته مادياً بالتعليم كالحصول على إعفاءات من الرسوم الثانوية، ومحاولة تأمين مواصلات للطلاب، إضافةً إلى تأمين المناهج الدراسية ومنها المناهج المسموعة للمكفوفين، فضلاً عن متابعة أحوالهم الدراسية بشكل مستمر”.
المرأة لها حصة
وتسعى الجمعية أيضاً إلى تقديم خدماتها إلى النساء من ذوي الاحتياجات الخاصة والاهتمام بشؤونهن، وقالت مسؤولة مكتب المرأة في “شغف” رهام غانم أيوب: إن “الموظفين الذكور في الجمعية لا يستطيعون القيام بالعديد من المهام الخاصة بالتعامل مع النساء المعاقات، كتسجيل البيانات الخاصة بهن والقيام بزيارات الى بيوتهن للإشراف الطبي عليهن، والقيام بعمليات الدعم النفسي لهن، فمعظم تلك النساء يجدن حرجاً في التعامل مع موظفين ذكور، لذلك تم تخصيص مكتب خاص للاهتمام بشؤون المرأة”.
وأضافت رهام أن “مكتب المرأة في الجمعية يضم سيدات يعملن حالياً في تسجيل بيانات هؤلاء النساء وتوثيقها وجدولتها وإعداد المشاريع الخاصة بتطوير عمل الجمعية، والتركيز على رعايتهن ليكتسبن الثقة بالنفس، وليعلمن بأنهن عظيمات ومبدعات ولديهن الكثير من المواهب والقدرات التي لم تقف الإعاقة ونظرة المجتمع في طريق إظهارها وتنميتها”.
وتعمل الجمعية حالياً لتفعيل دور المرأة بشكل أكبر، من خلال إشراف النساء العاملات في الجمعية على عدة دورات تدريبية، منها تعليم حياكة الصوف والخياطة والمكياج وتصفيف الشعر، ودورات في المعلوماتية وتعليم اللغات.
“عزت” الذي حيّر الأطباء
تشرف “شغف” على حالات كثيرة لكن منها قصة مؤثرة، فالبعض تعرض للإعاقة منذ الولادة، والبعض الآخر أصيب خلال سنوات الحرب الماضية، وبات يعاني من إعاقة جسدية.
عزت نجار طفل عمره 14 عاماً، لم يُكتب له قضاء طفولته بسعادة ومرح، فمنذ ولادته كان يعاني من عدة إعاقات، منها فقدان السمع بنسبة 50%، لذلك يضع سماعات أذن، كما يعاني من ضعف في شبكية العين، ولديه ضعف نظر بمعدل ثمان درجات من عشرة.
لم يقتصر الأمر على ذلك، فبعد بلوغ عزت التسع سنوات، أصيب بعجز في قدميه وفقد القدرة على المشي، وتم عرضه على عدة أطباء، لكنهم جميعاً لم يعرفوا السبب الرئيسي لتلك الإصابة.
لم يستجب عزة للعلاج، رغم تنقله بين عيادات الأطباء، واختلاف التشخيص والأدوية، إذ أجمع الأطباء على ضرورة نقله إلى تركيا لإجراء الفحوصات والتحاليل اللازمة غير المتوفرة في المنطقة.
وقال مسؤول العلاقات والمتابعة في جمعية “شغف” عبد المعين ياسين: إن “الجمعية سعت إلى متابعة حالة عزت خلال الفترة الماضية، من خلال زيارات متكررة إلى بيته، حيث خضع لمراقبة طبية، وجلسات في الدعم النفسي والدمج المجتمعي، لإخراجه من حالة الانعزال التي يعيشها ومساعدته على تكوين صداقات مع الآخرين”.
ورغم وضع عزت الصحي، إلا أنه يدرس في إحدى مدارس ذوي الاحتياجات الخاصة متحدياً كل ظروفه، وأشار عبد المعين الى أن “جمعية شغف تسعى جاهدةً حالياً لإدخال عزت إلى تركيا لمعاينته وكشف حالته بشكل دقيق بعد أن حيّرت الأطباء حتى الآن”.
هاني العبد الله