لأبراج الحمام ذاكرة في أرياف إدلب، تمايز بناؤها بحسب السعة المالية لمربيه، منها ما غدا أبراجاً تراثية ما زالت حاضرة حتى اللحظة، بناها إقطاعيو القرى في البلدات بارتفاعات تصل حتى عشرة أمتار، ينقسم داخلها إلى ممرات تتخللها أبواب مبنية بشكل هندسي على شكل أقواس تماثل أبواب القلاع، وتسقف بأعمدة خشبية تعلوها طبقة من “الطين والتبن”، جدران الممرات الداخلية عبارة عن خلايا منتظمة، كل منها مخصص لزوج من الحمام، لا تختلط فيما بينها وكلّ طائر يعرف مكانه، ومنها ما كان على شكل خلايا طينية اعتلت أسطح المنازل لمربين بسطاء، أو ما يعرف بـ “الحابوسة”، وتضم عدداً قليلاً من طيور الحمام للفرجة، وأحياناً لوجبة غداء دسمة.
وتنفرد بعض القرى في محافظة إدلب بوجود أبراج الحمام، مثل قرى ترملا وقسطون وكتيان، يقول الحاج أبو علي إن الإقطاعيين الذين كانوا يملكون هذه القرى قاموا ببنائها بشكل منظم ومعقد، وكان أشهرهم الخوري باتريك الذي استقدم من أجل بنائها عمالاً مختصين من مدينة حلب، اشتهروا بصنعتهم وإتقانهم، وأنفق في سبيل ذلك أموالاً طائلة، لتبدوا على شكل تحف معمارية، إذ احتلت أبراج الحمام مكانها في نفوس ملّاك هذه القرى، فكانت ثالث ما ينفقون على بنائه بسخاء، بعد القصر والقلعة.
ضمت الأبراج في عصرها الذهبي ما يزيد عن عشرة آلاف طائر من الحمام، كانت تستخدم للزينة والمتعة، إضافة إلى الطعام، كما شكلت تجارة رابحة في ذلك الوقت، إذ كان ملاكها يبيعون فراخها والزائد عن حاجتهم منها في أسواق حلب ومعرة النعمان.
ومع انتهاء زمن الإقطاع في سوريا، وتوزيع الأراضي على أهالي القرية، تحولت ملكية الأبراج إلى فلاحين من القرية، حافظوا عليها، ولم يمنعوا باقي السكان من الاستفادة منها، يقول أبو علي إن الأهالي غالباً ما استعانوا بحمام الأبراج لتقديم وجبة طعام لضيف أو عابر سبيل، لعدم توفر الطعام اللائق في بيوتهم نظراً للظروف الاقتصادية التي يعيشونها.
البناء المنظم والمشغول بدقة يسمح لكل طائر بالعودة إلى مسكنه، ساهم في ازدهاد تربية الحمام وزيادة أعداده، كما وفرت هذه الأبراج حماية للطائر في الظروف المناخية القاسية كالبرودة وارتفاع درجات الحرارة، وساعدت على تكاثره.
لم تقتصر تربية الحمام على الأبراج فقط، بل كانت على شكل خلايا طينية أو خشبية توضع على أسقف البيوت الطينية القديمة، والتي قام أغلب الناس بهدمها والتخلي عن مزاولة هذه المهنة، ولم يبق سوى قلة قليلة من الناس مازالت تعتني بها وترجو الفائدة منها. يقول الحاج عبد القادر( 89 عاماً) كان والدي قد وضع العديد من الخلايا الطينية على سطح بيتنا الطيني ذي الركائز الكبيرة لتربية الحمام و(الخلية عبارة عن تجويف يصنع من الطين ليكون مأوى للحمام ) وذلك عندما تكون بأعداد قليلة أو متوسطة على عكس ما هو في الأبراج التي تحوي آلاف الطيور وكل خلية تتسع لذكر وأنثى الحمام مع بيضهم وفراخهم إن وجد.
العوامل الجوية أثرت سلباً في بناء هذه الأبراج، وعرضت قسماً منها للتلف، كما تراجع الاهتمام بتربية الحمام لأسباب كثيرة منها هجرة الكثير من أبناء القرى، والنظرة الاجتماعية السلبية لمربي الحمام، والتي انتشرت في المدن والقرى السورية، ووصلت إلى حد “عدم قبول شهادته في المحاكم”، والامتناع عن تزويج الشباب مربي الحمام، كما كان لغياب طبق الحمام عن ذائقة المطبخ السوري دور هام في تقلص هذه المهنة، واقتصارها على الزينة والتمتع بهديله وألوانه وحركته.
لا تزيد أعداد الحمام اليوم في برج ترملا عن 500 طائر، بعد أن كانت بالآلاف، في حين تحول برج قسطون إلى مكان تحفظ فيه الأدوات الزراعية من قبل أهالي القرية، إذ يخلو المكان من أي وجود للطائر، وذلك بسبب نزوح الأهالي والقصف الذي تعرضت له القرية.
اختلفت طرق تربية الحمام في عصرنا الحالي، وانقسم مربوه إلى نوعين، التجار الذي يعتمدون على تربية الحمام وتهجين وتحسين أنواعه، ولهم تجارتهم وزبائنهم وأسواقهم التي تمتد حتى الدول العربية والأوروبية، وقد يصل سعر بعض الأنواع إلى آلاف الدولارات، وآخرون يطلق عليهم تسميات مختلفة كـ “الكشيشة” و “القشاشين”، يطلقون الحمام فيما يعرف بـ “الكش” مرتين يومياً، وفي موعد محدد، في الصباح والمساء، ترافق تلك العملية أصوات وصفير وصراخ منفر، ويعمد بعضهم إلى رمي الأحجار والأحذية في الهواء، ويتصف هؤلاء بسلوك القشاش وهو المربي الذي يقوم بجلب الحمام الغريب إلى أقفاصه عن طريق حركات ومغريات في الغذاء والمسكن والتزاوج، بينما تغيّرت مساكن الحمام الحديثة ليعمد المربون إلى بنائها على شكل أقفاص من الحديد أو الحجر خالية من أي صنعة فنية.