الخط الحلو…مصطلح كان قيد التدوال لا يفهمه إلا السوريون أنفسهم، فالخط الحلو كناية عن فئة المخبرين المعنية بكتابة تقارير اتهامية، تحمل لأصحابها بلاءً غير محدود الأجل. حتى باتت مهنة الخط الحلو موضوع تندر في بعض المسلسلات السورية منها بقعة ضوء، يصور استعداد المخبر للتضحية بعائلته وأصدقائه مقابل الحصول على مكافأة من “المعلم”.
مهنة يثبت فيها أصحابها ذواتهم، فكلما كان التقرير أكثر كيداً والتصاقاً بمحيطه، كان أكثر مصداقية لدى المسؤولين عنه، مئات من هذه التقارير بقيت حبيسة الأدراج، تنتظر الوقت المناسب لاستخدامها، وكثيراً ما كان شعور جمعي يرافق السوريون بأن “الدولة” تعرف كل شيء، وتحصي حتى أنفاس مواطنيها.
لم يكن أصحاب مهنة الخط الحلو مقيدين بجغرافيا معينة، كالمدن الرئيسية، بل جابت مهنتهم جميع القرى والبلدات، حتى تلك التي لا تظهر على “الخارطة السورية” حتى باستخدام “الجوجل”، ساهم في ذلك فكر حزب البعث الذي غذّى في نفوس الجميع القدرة على التحوّل إلى مخبرين، بل ورافقت المغتربين الذين كانوا أشد خوفاً من أقرانهم في الداخل، والذين كانوا يخافون الخوض في أي حديث من شأنه أن يحسب عليهم، إن فكروا في العودة، حتى على سبيل المزاح.
مع بداية الثورة السورية، وخلال المظاهرات التي كان ينسق لها عدد من الناشطين، نشطت المهنة، وضمت في صفوفها أشخاص جدد، كانت حجتهم في بيع ضمائرهم والوشاية بأصدقائهم جاهزة، فالمستهدف وطن، والأصدقاء مخربون وإرهابيون.
شبان كثر وجدوا أنفسهم معتقلين، التحقيق معهم دار حول مسائل وجلسات خاصة، كان حاضروها لا يتجاوزون أصابع اليد، فأصحاب الخط الحلو يملكون ذاكرة حديدية، ومدربون على اقتناص التفاصيل، يعملون كمسجل خلى من المشاعر، ولعلّ وصف السياب فيهم كان الأوفى حين قال ” أنا ما تشاء: أنا الحقيرْ/ صبّاغ أحذية الغزاة، وبائع الدم والضمير”.
نور إحدى الناشطات التي اعتقلت وأصدقاؤها في بداية الثورة، كان الواشي بهم أكثر أعضاء مجموعتهم السرية نشاطاً وفعالية، هو من شاركهم أحاديثهم ومشاعرهم وتوقهم للحرية، يرتدي بذلك قناعه الإنساني، بينما يخفي خلف ابتسامته الباردة انتصاراً مزعوماً على نفسه.
استبدل النظام جزء من طريقته الاعتيادية في بث الخوف عن طريق مخبريه، بإدارة سماها “الجرائم الإلكترونية”، عيّن من أجلها ضباطاً وراصدين ومهندسين، يحصون ماذا يخطر في “بالك”، ويكيلون التهم لمجرد “الكلام”، وهو ما دفع أصحاب الخط الحلو للدخول إلى البيئة الأكثر جذباً والرائجة في سنوات الثورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، منهم “المخضرمين” في السلك، موظفون، أساتذة، مسؤولون في مؤسسات الدولة خاصة قطاعي التعليم والصحة، وأخيراً الطلبة، فقسم منهم تجاوز مهنة الخط الحلو ليدخل ميدان القتال…صفحات الحراك الثوري والمعارضة السورية انتشرت على فيسبوك كالنار في الهشيم، تصور المظاهرات، وتوثق الانتهاكات وممارسات شبيحة النظام بالمعنى الفيزيولوجي للشبيح آنذاك.
بالتزامن مع ميل ميزان السيطرة العسكرية لصالح الجيش الحر واتساع نظاق نفوذه، حالة من التنفس الشعبي ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي، الكل يتحدث والجميع ينتقد، لم يكن النظام يسعى إلى اعتقال ناشطي الفيسبوك والثوريين بقدر سعيه وراء الانتقام من حملة السلاح، وهو ما أفسح المجال لانتقادات تحت “سقف الوطن”، طالت عدداً من المسؤولين الصغار، دون الاقتراب من الخطوط الحمراء “الكرسي والجيش والعلم”، إلّا أن “سكرين شوت” كان رفيق أصحاب الخط الحلو الجديد، لاستخدامه وقت الحاجة، فالوقت بات ملائماً الآن، وعلى الجميع أن يدفع ثمن ما أتيح له.
الكثير من الشباب الساكن في مناطق النظام، ترك مكانه، فيما يحاول آخرون الخروج بأنفسهم، يقول كرم (صحفي) والمختفي عن الأنظار منذ أشهر باحثاً عن طريقة للخروج تبقيه خارج الاعتقال، بينما يتكتم الأستاذ الجامعي أحمد وهو من أصول كردية عن مكانه بعد أن غادر البلاد، إذ لم يسلم “شبيحة فكريون” من الاعتقال، كـ “وسام الطير” صاحب صفحة “دمشق الآن” والذي كانت صوره مع “أسماء الأسد” تزين بروفايل صفحته، فكيف بمن لا ظهر له.
السعي وراء الفتات، والإحساس بالأهمية، وأن تكون ملكياً أكثر من الملك، كلّها أسباب تأصلت في نفوس أصحاب الخط الحلو، وباتت شغلهم الشاغل، وجزء من تكوينهم الشخصي، بعد أن غابت الصورة التقليدية القديمة لهم، والتي شاهدناها عبر أفلام ومسلسلات حاكت حياتهم، بنظارات سوداء وجريدة رسمية وآذان رادارية، أو بامتهان مهن بسيطة كبائعي بالونات الأطفال وحلويات وبسطات الفول وأكشاك الدخان وسائقي تكسي ومصلّين في المساجد، لنقل أوجاع الناس لا لحلّها بل لمحاسبتهم عليها.
غرّد خارج السّرب رجل في واحد من المساجد، يحمل ورقة وقلماً، بصورة علنية، ويكتب على عجل ما يقوله “الخطيب”، فاللعب صار على “المكشوف”، لعلّه لم ينجح في اقتناء جهاز محمول جديد، ويترقى لمنصب “مخبر إلكتروني”.