صورة صيدليتي القديمة في حلب ، والتي أرسلها أحد زبائني هناك منذ أيام، صفعتني. لم أعرف ملامح المكان الذي عشته لأكثر من عشر سنوات يومياً، جيئة وذهاباً، كنت قد اعتدت الذهاب إليها من طريقين، أحبهما ذلك الذي يمر من الشوارع الضيقة الممتدة بين حيي الحيدرية وحي الشيخ خضر، حيث الصيدلية، أحاول في كل مرة أن أركز على شيء تجنباً لتأفف سائق التكسي الذي يقلني، لضيق المكان وحفريات المياه والصرف الصحي والتي غالباً ما تترك ندبة في الشوارع، وبعض المطبات التي صنعها الأهالي لحماية الأطفال المنتشرين أمام بيوتهم في جميع الأوقات، يركضون حفاة أو بأحذية بلاستيكية، يحملون بأيديهم أرغفة من الخبز الناشف، أو المدهونة بـ “مية الفرنجي”، إرث الفقراء في المدينة.
لم يفاجئني حجم الدمار الذي كنت أعرفه خلال زيارتي الأخيرة لحلب في 2015، المدرسة المقابلة التي كانت تحمل اسم “البعث” بجدرانها الملونة بالأعلام “الوطنية” ما زالت في مكانها، محل القصابة والفروج المقابلين لصيدليتي بلا أبواب، بينما امتلأ محل الخضار المجاور بالأنقاض والأتربة والتنك، ربما هي ذاتها التي كانت تشكل الحاجز الذي نصبه الجيش الحر في المكان، دكان العم أبو حسين القريب بدا مضيئاً في الصورة، خلال السنوات الماضية كان يبدو معتماً بلونه الأصفر وخلوّه من كل شيء، نادراً ما كنت تجد فيه بعض أكياس البطاطا المقرمشة، وعلب بسكويت من نوع ردي، وكازوز من نوع “جلول” استبدل الرجل محتوياته باللبن الرائب كبديل عن المياه الغازية وأبقى على الاسم، صيدليتي وحدها كانت غائبة الملامح للدرجة التي لم أعرفها دون تدقيق كبير بالصورة.
لم تعد حلب كما كانت في الذاكرة، هناك طعم مفقود، وصور لأشياء جديدة بدأت تترسخ ذهنياً كبديل شرعي للأيام الماضية، تحتاج الصور القديمة لأرشفة منظمة والكثير من التدقيق، وعودة إلى أيام “الصبا” لاستحضار ذلك المذاق القديم ثانية.
كانت المدينة تسكننا بحق، لا بحكم العادة، ولا بسطوة الحب التي كنت أشعر بها خلال زياراتي القليلة لأماكن بعيدة عن حلب، كدمشق وقريتي الوادعة في ريف إدلب، بل بسطوة اللهجة التي كنا نتقنها باللاوعي، ونشدد على ألفاظها، خاصة بحضور غير الحلبيين، والأهم من ذلك، كان محاولة كل منا التمسك بما ألصق بالمدينة وسكانها، حلب العاصمة الصناعية والتجارية، وشعبها النهم للطعام ومطبخها المدهش المليء بـ “الدهون والشحوم”.
كلما حاولنا الالتصاق بالمدينة كانت تزيد انفلاتاً عنا، وكلما حاصرناها بإتقان اللغة والطعام وتمثيل دور الصناعي والتاجر، كانت تقتلنا بالاستغلال وساعات العمل الطويلة، لا لشيء سوى لتحافظ على المقولة الأوسع انتشاراً بين سكانها “حلب المدينة التي لا تنام”.
ضمت المدينة في أحيائها الشعبية، والتي اختارت كعادة المدن جهة الشرق للحياة، مزيجاً اجتماعياً خاصّاً، من الأرياف الحلبية والإدلبية، وقوميات مختلفة كالأكراد والتركمان، إضافة لبعض الدروز والموظفين والضباط والعساكر العلويين، وقسم من أهالي الرقة ودير الزور، الجميع أخضعتهم المدينة لطقوسها، ولمسمياتها ومطبخها ولكنتها أيضاً.
في حي الشيخ خضر والذي يغلب على سكانه ملامح كردية وتركمانية، احتفظت العجائز بلباسهن التقليدي، أما الفتيات في ذلك الوقت في بداية القرن الحالي فغلب عليهن اللباس التقليدي لمدينة حلب، المانطو الطويل والحجاب الأسود، بعض بنات الريف الشمالي التزمن بغطاء الوجه “الباشاية” كما يطلق عليه أهالي المدينة، أما اللهجة العامة، فقد أتقنها الجميع دون استثناء، ودون تمايز عن العائلات الحلبية أيضاً.
مشاهد كثيرة مرّت وأنا أستعيد ذاكرة المكان، أضحك على سرعة البديهة بـ “قلب اللسان” لأبناء الحي، عند الدخول إلى صيدليتي وفي انتظار الحصول على الأدوية، لغات كثيرة كنت أسمعها وبت أعرف جزء منها، ولهجات متنوعة كانت تطرق مسمعي خلال حديث عابر، إلّا أنها سرعانما تتحول إلى “الحلبنة”، إن صح المصطلح، في الحديث مع الغرباء أو أصحاب المحال التجارية، ربما كانوا يختبئون خلفها لاستعادة شيء من الثقة، أو لعل المدينة سكنتهم كما فعلت بي، وفرضت شروطها للحياة على سكانها.
الرجال والأطفال يوم الجمعة يرتدون “مجالبيات بيض” ويضعون “العرقية” للذهاب إلى الصلاة، يجمعهم دور طويل بعيد الصلاة على محلات الفول، المصنوع بالطريقة الحلبية أيضاً، معظم أصحاب هذه المحلات لم يكونوا من أهل المدينة، وشربوا حياتها، غرّد خارج السرب مسنُّ تركماني كان يصنع “الشعيبيات” ويقول إنها على طريقة أهل أريحا بريف إدلب، غير آبه بحزن المدينة التي لا تقبل شريكاً لحضورها.
هُجر قسم كبير من أهالي مدينة حلب، بعضهم عاد إلى مسقط رأسه، آخرون لجأوا إلى بلاد غريبة، وأطلقوا ما عاشوه من أسماء في حلب على محلاتهم الجديدة، لجذب أبنائها، صرت ترى فروعاً لـ “النكمة وسلورة والشهباء وحلب والطيب وسوار” وغيرها من الأسماء في تركيا وبعض البلدان الأوروبية، وحتى في القرى السورية التي نزحوا إليها، في استحضار للذاكرة يغيب عنه “الطعم القديم” ومقارنات طويلة لرواد هذه المحلات علّهم يجدون ما يختبئون خلفه من جديد.
وأنا أتفحص الصورة التي وصلتني كانت المدينة هذه المرة تشبهني/نا، فلا طقوس ولا سطوة لمدينة نازحة.