يجلس أبو أحمد العبسي مع عائلته حول مدفأة الحطب، ممسكاً بيده حبات التين المجفف، يحشو كل حبةٍ منها ببعض الفستق، ويوزعها على أفراد العائلة، ليشتركوا جميعاً بطعمها اللذيذ، وبطقوسها التي لا تزال مستمرة في كثير من بيوت السوريين رغم ظروف الحرب.
للتين عشاقه في محافظة إدلب التي تشتهر بزراعته، إذ يتم تناوله طازجاً خلال موسمه أواخر الصيف، بينما يتم تجفيف الجزء الآخر ليتسنى للأهالي تناوله في أي وقت من أوقات السنة، خاصة في فصل الشتاء والذي يعد التين المجفف فيه من أهم الضيافات التي تقدم للزائرين، بعد حشوه باللوز أو الجوز أو الفستق، إلّا أن ارتفاع أسعار التين والمكسرات وسوء الوضع الاقتصادي للسكان ساهم في تراجع تلك العادة المتوارثة.
وفي المقابل أدخل بعض الناس بدائل على طقوس تناول التين المجفف، يقول أبو أحمد العبسي لفوكس حلب: “لم يمنعنا ارتفاع الأسعار عن الاستمرار في تناول التين المجفف، فهو يمنح الدفء خاصةً في فصل الشتاء، كما أنه مفيد للغاية في شهر رمضان، حيث يفضّل الكثير تناوله على الإفطار، كونه يمنح الجسم الطاقة ويعيد النشاط بعد تعب طوال اليوم”.
وأضاف العبسي “أغلب الناس لم يعد بإمكانهم حشو التين المجفف باللوز أو الجوز، يتراوح سعر الكيلو منهما بين 5-6 آلاف ليرة سورية، لذلك تم استبداله بالفستق العبيد غير المملح، والذي لا يتجاوز سعر الكيلو منه الألف ليرة”.
وبات التين المجفف كحلوى للسوريين، في ظل ارتفاع أسعار مختلف الحلويات، ويتراوح سعر الكيلو منه بين 800-1000 ليرة سورية، بينما لا يقل سعر أي نوع من الحلويات عن 2000 ليرة للكيلو غرام، ويصل سعر بعض الأنواع الفاخرة الى 5 آلاف ليرة سورية.
تين إدلب يسافر الى الدول العربية
الإقبال على التين المجفف، دفع البعض الى افتتاح ورشات لتجفيف التين، والتي باتت مهنة على مر عقود من الزمن، وانتشرت تلك الورشات في محافظة إدلب نظراً لغناها بأشجار التين، وخاصةً في مدينة أريحا وقرى جبل الزاوية، لكن مع اندلاع الثورة في سوريا توقفت معظم ورشات تجفيف التين، بينما فضّل بعض أصحاب الورش تحدي الظروف والاستمرار في العمل.
وبلغ إجمالي عدد أشجار التين في محافظة إدلب خلال عام 2010 حوالي 873368 شجرة، فيما بلغ الإنتاج 21 ألف طناً، ليتراجع إنتاجه في السنوات الماضية إلى 12 ألف طناً، وبلغ عدد أشجار التين عام 2014 حوالي 882 ألف شجرة.
عبد الهادي الإبراهيم صاحب ورشة لتصنيع التين المجفف في أريحا، حرص على المحافظة على عراقة تلك المهنة، واستمر بالعمل في ورشته.
يقول “تجفيف التين في أريحا مهنة قديمة يصل عمرها لخمسين عاماً، وفي عام 2010 كان يزيد عدد ورشات تجفيف التين ضمن أريحا لوحدها على 30 ورشةً، وكانت توفّر ما بين ألفين إلى 9 آلاف فرصة عمل حسب وفرة الإنتاج، ولكن اندلاع الثورة وما رافقها من ظروف، أدت الى توقف معظم الورشات”.
وبدأ عبد الهادي الإبراهيم العمل على تصنيع التين المجفف منذ 10 سنوات، وتضم ورشته نحو 60 عاملاً لكلّ منهم عمله الموكل إليه ابتداءً من غسل ثمرة التين وصولاً إلى التعبئة والتغليف، حيث يتراوح الإنتاج من التين المجفف ضمن الورشة بين 1,5 -2 طن يومياً.
ويضيف الابراهيم “خلال عملي في هذه المهنة لسنوات استطعت إتقانها بالشكل الصحيح، ورغم ظروف الحرب واصلت العمل متحدياً القصف وغلاء الأسعار وندرة المواد الأولية، لكن صعوبة تصريف المنتج محلياً دفعتني الى زيادة التصدير للخارج للحفاظ على المهنة من الاندثار وزيادة مستوى دخلي”.
ويُصدّر التين إلى دول المغرب العربي والخليج والعراق، عن طريق تركيا أو مناطق النظام، ويرى الابراهيم أن “أسعار التين المجفف، الذي يصدّر إلى دول الخارج، مناسبة لتكاليف العمل، إذ يتراوح سعر الطن الواحد بين 1500 إلى 3000 دولار أمريكي، حسب جودته”.
ورشات تتحدى العقبات
واصطدم العاملون في مجال تجفيف التين بالكثير من المعوقات، فخلال سيطرة النظام على أريحا وقرى جبل الزاوية تراجع إنتاج التين، وذلك بسبب امتناع المزارعين عن الذهاب إلى مزارعهم خوفاً من الملاحقة الأمنية، فضلاً عن إحراق عناصر الأسد الكثير من أشجار التين أو قطعها للاستفادة من خشبها، إضافةُ الى مصادرة الشبيحة كميات كبيرة من التين المجفف من أصحاب الورشات دون دفع ثمنها، ما أدى الى إغلاق الكثير منها.
وعقب خروج قوات النظام من محافظة إدلب منتصف عام 2015، ازدهرت مهنة تجفيف التين مجدداً في الأعوام الثلاثة الماضية، في ظل عودة الفلاحين لأراضيهم وزيادة إنتاج التين، وغياب الملاحقة الأمنية. لكن أصحاب ورشات تجفيف التين اصطدموا بواقع جديد، وفي هذا الإطار قال عبد الهادي الابراهيم: “نعاني من صعوبة تأمين المواد الأولية من مناطق النظام نتيجة الرسوم المفروضة من قبل حواجز الأسد، فضلاً عن الضرائب التي يتقاضونها عند تصدير التين المجفف إلى مناطقهم أو خارج سوريا، إضافةً الى تراجع لطلب المحلي على التين المجفف عما كان عليه قبل الحرب”.
وتشمل المواد الأولية المستخدمة في تجفيف التين، مواد التبيض والتعقيم، والكرتون والسلفان المستخدم في عملية التغليف، حيث تتعدد مصادر الحصول عليها بين الأراضي التركية ومناطق النظام، ما أدى لارتفاع سعرها للضعف، ويُقدّر سعر علبة الكرتون الفارغة بنحو 500 ل.س.
“السلطاني” أفخر الأنواع
عملية تجفيف التين تمر بعدة مراحل، أولها تأمين النوعية الجيدة والصالحة للتصدير من سوق الهال في أريحا أو القرى المجاورة، ثم توضع ثمار التين في سلال بلاستيكية، وتُدخل إلى غرفة محكمة الإغلاق لمدة 48 ساعة ليتم تعقيمها.
وتُفرز ثمار التين إلى ثلاثة أنواع، الأول هو “السلطاني” وهو أجود الأنواع، نظزاً لكبر حجم الثمرة وبياضها اللافت، والفائدة التي تحتويها، وهذا النوع يُعلّب بصناديق من الفلين بعد ضغطه، وهو الأكثر رواجاً وطلباً في الأسواق الخارجية.
والنوع الثاني يدعى “القلائد” أو “الحبال”، حيث يُضم التين بخيوط ليشبه “العُقد”، ومن هنا جاءت تسميته، ويتم تصديره أيضاً إلى معظم دول العالم، أما النوع الثالث وهو الأقل جودةً ويدعى “القرو” فيستخدم كـ علف الحيوانات.
بعد الانتهاء من فرز التين وتعقيمه، تبدأ مرحلة غسيل الثمار بالماء للتخلص من الشوائب العالقة، وعقب ذلك تُعاد الثمار إلى غرفة التعقيم والتجفيف لمدة 24 ساعة، لتبدأ المراحل الأخيرة بفرز ثمار التين كلاَ على حدة، ووضعها في قوالب صغيرة أو كبيرة الحجم حسب الطلب، وقد يصل وزن العبوة الواحدة إلى 10كغ.
مصدر دخل للأرامل والفقراء
ساهمت ورش التين المنتشرة في المحافظة بتأمين مصدر دخل للنساء الباحثات عن عمل، خاصة الأرامل وفاقدات المعيل، فاطمة من بلدة المسطومة بريف إدلب فقدت زوجها خلال قصف قوات النظام على البلدة قبل عامين، ما دفعها للعمل في ورشة لتجفيف التين في البلدة والتي تضم نحو 75 عاملاً ثلثيهم من النساء، تقول “لديّ أربعة أولاد وليس لدينا أي معيل، ما دفعني للعمل في تجفيف التين، حيث أتقاضى 10 آلاف ليرة سورية أسبوعياً، وهو مبلغ لا يلبي احتياجات عائلتي، لكني لم أعثر على عملٍ آخر، لذلك اعتمدت في البداية على بعض المساعدات الإغاثية وتبرعات أهل الخير”.
وأضافت فاطمة “تراجعت في العام الماضي المساعدات، في ظل عزوف كثير من المنظمات عن تقديمها، وهو ما دفعني إلى تشغيل ابنتي معي في الورشة، فهي مهنة سهلة لا تحتاج لأي خبرة، فالعمل يقتصر على تعبئة التين المجفف في علب وتغليفه، وبذلك تضاعف دخلنا المادي”.
وفي المقابل لجأت بعض النساء الى العمل بتجفيف التين في المنزل، ومنهنّ أم ياسر وهي ربة منزل من بلدة الرامي بجبل الزاوية، والتي كانت تعمل في البداية على تجفيف التين فقط من أجل المونة، وتوزع منه لأقاربها وجيرانها، لكن مع ضيق وضعها الاقتصادي عقب إصابة زوجها بالشلل، لجأت الى بيع كل ما تنتجه من تين مجفف للمحلات التجارية لكي تؤمن مصدر دخل.
وحول طريقة تجفيف التين المنزلي قالت أم ياسر: “من السهل تجفيف التين من قبل أي ربة منزل، خاصةً لمن لديه أشجار تين، فلابد أولاً من ترك حبات التين حتى تصبح ناضجة تماماً وتوشك على السقوط عن الشجرة”.
تضيف أم ياسر قائلةً: “بعدها يمكن قطاف التين أو شرائه من السوق، ومن ثم يُنقع بماء مغلي مملح لعدة دقائق، ثم يترك حتى يجف على قطعة قماش نظيفة، بعدها لابد من تعليق حبات التين على حبل وتعريضها لأشعة الشمس لمدة يومين”.
ونوّهت أم ياسر الى أنه “لا يُفضّل وضع التين المراد تجفيفه على الأرض، لأن الحشرات والديدان يمكن أن تدخل إلى ثماره، كما لا بد من تفقد التين كل صباح، كي لا يصبح يابساً، حيث يجب أن تكون حبات التين ناعمة ومرنة ولا يخرج منها أي سوائل عند عصرها، وبعد أن يصبح التين المجفف جاهزاً يمكن حفظه في علب أو وضعه في الثلاجة”.
التين المجفف له فوائد كثيرة والتي تحدث عنها أخصائي التغذية فراس اليوسف قائلاً: إن “التين المجفف يخفض نسبة الكوليسترول في الدم ويُخفّف الوزن الزّائد، بسبب احتوائه على نسبة جيّدة من الألياف، كما يُعزّز وظائف الجهاز الهضميّ والأمعاء، ويقي من سرطان الثدي وأمراض القلب، ويعد مصدراً غنيّاً بالطاقة لارتفاع محتواه من السكر”.
وأضاف اليوسف أن “التين المجفف له دور هام في الوقاية من أمراض القلب ويقي من ارتفاع ضغط الدم ويساهم في علاج داء السُكريّ، بسبب احتوائه على نسبة عالية من عنصر البوتاسيوم، كما يقوّي العظام والأسنان لاحتوائه على الكالسيوم وفيتامين k والمغنيزيوم، ويُخفّف أعراض التهاب الحلق، فضلاً عن دوره في علاج العديد من الاضطرابات التنفسيّة، كالربو والسُّعال الديكيّ”.
هاني العبد الله