“لولا تلك العربة لما استطعت إكمال مسيرتي الفنية” هكذا بدأ الفنان التشكيلي محمد عساف حديثه عن مسيرته الفنية، مشيراً إلى عربة لبيع “الصندويش” كانت رفيقته خلال سنوات الثورة، أمّنتْ له “لقمة عيشه” وبقايا نقود استخدمها لشراء معدّات الرسم، رفيقته هي الأخرى في تجواله.
التشكيلي الذي ولد في عام 1973 وعاش طفولته وشبابه في مدينة حلب، تنقل بين “المراسم” والبلدان للعمل واكتساب الخبرة قبل الثورة، وسعى جاهداً لتطوير نفسه من خلال الالتحاق بالمعاهد الفنية في حلب كمعهد فتحي محمد والمعهد الذي كان قد اتخذ من صالة تشرين مقرّاً له، لرفد موهبته بأكاديمية رأى فيها العساف “ضرورة” للفنان وأعماله.
بالقرب من عربته التي أطلق عليها اسم “الرسام” يشدّ العساف لوحته ويفرد ألواناً قال إنه يأتي بها من تركيا، إذ لا توجد في قرية كفركرمين حيث حطّ به نزوحه زمن الثورة مواد الرسم والألوان، ما يضطره للحصول عليها من الدول المجاورة وبأسعار باهظة تقضم معظم ما يجنيه، يقول عن سبب اختياره لاسم الرسام “إنه يُعرف في المنطقة التي يسكنها بهذا الاسم، وهذا ما دفعه لاختياره”.
لم يمرّ الأمر بسلاسة يقول، فأن يتحول رسام إلى بائع للصندويش، كان تحديّاً كبيراً بالنسبة له، هو الذي كان في البداية يجر عربته بخجل، حتى تحول الأمر بمرور الوقت إلى إثبات للذات، وأمل لا توقفه المعاناة والقهر، خاصة مع يقينه بأن كل خطوة يخطوها الفنان تحمل في ثناياها “ألف معاناة وطريقة نضال وكفاح”.
يرتب الرّسام عربته صباحاً، يملؤها بأشكال المخلل والحشائش والأطعمة ليخرج بها إلى ساحات القرية، لا يوقفه سوى مشهد يستفز روح الفنان بداخله، يتوقف لدقائق يضع خطوطاً عريضة للوحة قادمة، ثم يكمل طريقه، يروي بطرافة أن أحدهم سأله يوماً وهو يلف “صندويشة” هل أنت رسام؟ وحين سأله عن السبب قال إن يديه كانت تتلاعب بمكونات الصندويشة وتقلبها كمن يرسم خطوطاً على لوحة.
شكل العساف مع أصدقائه السوريين من النازحين واللاجئين تجمع الفنانين التشكيليين، ليشارك معهم بلوحاته لا بشخصه خلال السنة الماضية بمعرضين نال فيها شهادتي تقدير عن أعماله، معرض فنانون حول العالم بمشاركة 170 فناناً تشكيلياً من دول العالم، ومعرض آخر أقيم في تركيا.
يحاول العساف أن يقيم معرضه الأول في المناطق المحررة، يقول إن معظم الفنانين السوريين قد غادروا البلاد، ولم يبق في البلاد منهم ما يتجاوز أصابع اليد الواحدة، مؤكداً أن “البلاد وحدها من تعطي للفنان قيمته”، خاصة مع غياب الرعاية للموهوبين من الأطفال، وغياب حصص الرسم عن المدارس، متمنياً أن يستطيع وأقرانه بمساعدة المؤسسات المدنية الإضاءة على هذا الجانب، فالفن تفريغ لمشاعر الأشخاص على الورق، هو تلك الحالة الشعورية من التعبير والنزق التي يحتاجها الناس، خاصة الأطفال الذين عانوا الحرب والقصف والتهجير، للاستمرار والحياة.
يقطع سيل ألوانه على لوحة بيضاء بدأ برسمها صباحاً رجل يحتاج إلى “صندويشة”، يمسح الحبر عن يديه، يلبي حاجة الرجل، ليعود إلى ألوانه مع برودة الطقس، يتحلق حوله أطفال من القرية، يراقبون عن كثب كيف يمنح تلك الورقة البيضاء أمامه شيئاً من الحياة والوجود.
طرق العساف معظم المدارس الفنية بريشته، إلّا أنه اليوم يلتزم بالواقعية منها، فأعماله أقرب إلى التوثيق، والتصوير البديع للدمار والقصف، يضاف إليها موهبة في الخط العربي وكتابته، قلّما يجد الفنان عملاً باختصاصه زمن الحرب، ومع غلاء الألوان والمعيشة لا يجد بدّاً من إيجاد سبل للحياة والاستمرار.
يعيش العسّاف في ما يشبه الدكّان برفقة زوجته وعائلته، أما مرسمه فهو عبارة عن “علية” هدّمتها الحرب، هناك يقضي جلّ وقته مع ألوانه ولوحاته التي وسمها بالضبابية بعد أن انزاحت رؤيته للألوان، بحروفها ومعانيها، إلى ما يشبه الحالة الضبابية العامة التي يعيشها الناس في المنطقة
بعض أعمال الفنان محمد عساف