قبيل المباراة النهائية بكاس العالم 1938 والتي جمعت بين المجر وإيطاليا موسوليني أرسل الأخير برقية مختصرة حملت رسالة تهديد للاعبي فريقه مفادها “انتصر أو مت”، وبعد نهاية المباراة وفوز إيطاليا بالكأس علّق حارس المجر بطرافة “من المحتمل أن أكون قد تركت دخول أربعة أهداف في مرماي، لكني على الأقل أنقذت حياة أحد عشر لاعباً”.
وفي النسخة الأخيرة من كأس العالم التي أقيمت في روسيا 2018، عمد بوتن إلى وضع كافة الإمكانيات الروسية لإنجاح هذه المهمة، ليس فقط لأغراض سياحية ومالية، بل لتعويم صورة روسيا والإضاءة عليها وإعادتها إلى الواجهة من جديد، لتأخذ دوراً سياسياً طالما اتبعه حكام وساسة وقيادات بلاد، لإلهاء شعوبهم بأشياء تبعدهم عن الحياة السياسية والظروف الاجتماعية بأخرى لا تشكل تهديداً مباشراً، بل على العكس تعزز من فكرة الانتماء والقشعريرة للعلم والنشيد.
وإن كان الأمر لم يفلح في فرنسا حاملة كأس العالم في نسخته الأخيرة في تخفيف حدة احتجاجات الستر الصفراء، إلّا أنه وعلى ما يبدو أتى أُكله في البناء السوري المهدم الذي يحكمه بشار الأسد، ليغدو اختباراً جديداً للوطنية، ويطفو على السطح من جديد سؤال هام من يمثل هذا المنتخب، وهل حقاً هو فريق لكل السوريين على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم؟
الحال اليوم في سوريا يشبه إيطاليا الفاشية أيام موسوليني، ويفترق عنها ببعض الصفات، إلّا أن صورة الديكتاتور لا تكاد تفارقه. الديكتاتور الذي يسعى إلى تلميع صورته باستخدام الرياضة، خاصة كرة القدم، لتعزيز سلطته وكسب شعبيته داخل البيت السوري، الدكتاتور الذي لم يكن يوماً مهتماً بالرياضة إلّا بشعارات كاذبة ورثها الابن عن أبيه، محاولاً تقليده بتصدير صورة من “المحبة والسلام والأخلاق” التي تمثل جوهر اللعبة الرياضية إلى العالم، لفك عزلته وتغيير الصورة النمطية عن جرائمه بأخرى أكثر التصاقاً بفكر سطحي وانتماء يصرف اهتمامهم عن أمور أخرى.
ظهر الديكتاتور في 2017 مع لاعبيه، استقبلهم، وأضاف توقيعه على قمصانهم، جذب باهتمامه المسيّس شريحة أخرى من الموالين الممتعضين للظروف الاقتصادية التي تعيشها البلاد، بل وإن أردنا الذهاب بعيداً حاولت آلته الإعلامية الاستفادة من مباراة الفريق مع إيران، الصديق الأوفى للأسد والمقاتل الأشرس لحمايته، بخلق جوّ عام من الاستياء من إيران لصالح روسيا، اللاعب الأقوى والمنافس الوحيد للإيرانيين في سوريا، كيف لا وقد حرم الفريق الإيراني وقتها سوريا من الدخول لأول مرة إلى مسابقة كاس العالم، حلم السوريين الذي راودهم دائماً.
في الضفة الأخرى أحدثت الرياضة شرخاً جديداً بين أنصار الثورة، واختلفت الآراء بين من يرى بوجوب فصل الرياضة عن السياسة، وبين من رأى في المنتخب السوري ونظام الحكم فيها صنوان لتجربة واحدة، ما فتئت تظهر نفسها بـ “وقاحة” كفريق للجيش السوري البطل، ومنتخب الأسد، كما هو الحال بسوريا الأسد، وهو ما ولّد مشاعر متناقضة بين الطرفين وصلت حدّ التخوين والإساءات اللفظية، وأطلقت في سبيل ذلك الهاشتاغات وغدت ساحات الفيس بوك ووسائل التواصل الاجتماعي مكاناً للسجالات والسخرية، عنوانها الأهم التفريق بين “منتخب البراميل” و “المنتخب السوري” باعتبارهما متصلين أو منفصلين.
نسور قاسيون المسمى الذي يطلق على الفريق السوري من قبل المعلقين والقنوات الرياضية، هذا الوصف الذي يساعد إلى حد كبير في تكريس صورة الحاكم وتوطيد حكمه، واستغلال الانشقاق الحاصل من ناحيتين أولهما تعزيز الانقسام الحاصل بين فئتين من السوريين (الموالية والمعارضة) وتجيير نتائجه لصالح رفع شعبية الحاكم، واتهام معارضيه بالخيانة، كيف لا وهم يقفون ضد منتخبهم وعلمهم ونشيدهم، إضافة إلى عدم قدرتهم فصل السياسة عن الرياضة، وتشجيع منتخبات توصف بـ “العداء” للدولة على حساب أبناء بلادهم، وصلت هذه الاتهامات إلى الحد الذي طالب فيه متبنيها إسقاط الجنسية السورية عن كل من يقف ضد المنتخب وتشجيعه.
وثانيهما إشغال الناس بقضايا أكثر خصوصية وأقل حدة، وذلك من خلال التركيز على تشجيع المنتخب ونتائجه والوقوف معه، واستبدال الحديث عن أدوار الغاز الطويلة وانقطاع الكهرباء وضعف المعيشة، بالأداء السيء للسومة واعتبار خريبين منقذاً، وليصبح شعار إقالة المدرب الألماني وإسقاطه بديلاً عن إسقاط الأسد وحكمه، فالاستعانة بمدرب وطني (ابن بلد) هو الحل، وهو يشبه بذلك الاستعانة بـ الأسد رئيساً أبدياً كبديل عن آخرين جاؤوا من بلاد غريبة ولا يحملون الانتماء للقميص والبلاد.
نجاح المنتخب بالوصول إلى الدور الثاني من البطولة الآسيوية سيضيف إنجازاً آخر للديكتاتور، وفشله سيزيد صورة القائد نصاعة بالوقوف مع فريقه حتى في أحلك الظروف، حاله بذلك حال سوريا التي تعاني من مؤامرة كونية، كما سيترك مساحة للموالين بالتنفيس عن مشاعر غضبهم بالسباب والشتائم للمدرب الألماني والاتحاد الرياضي، عندها سيتدخل الديكتاتور لإقالته محققاً طموحات شعبه وآمالهم.