يتفقّد أبو أسعد دهنين معداته الخاصة، يرتبها بعناية، يرتدي معطفه الممزق المتّشح بالسواد ويلّف الوشاح حول وجهه، فعمله كـ “ماسح أحذية” يتطلب منه الجلوس على قارعة الطريق وسط البرد القارس. منذ عشرين عاماً لم يتغيب الرجل عن مكانه، حتى في أقسى الظروف المناخية، وسنوات الحرب.
يحمل أبو أسعد صندوقه الخشبي القديم على ظهره ويحمل بيده كرسياً صغيراً، يفتح باب بيته ليخرج إلى عمله اليومي، تنظر إليه زوجته بغصة وألم وفي جعبتها كلامٌ كثير تريد قوله، فيرد عليها قائلاً: “بعرف شو بدك تقولي، بس لازم تعرفي أنو الشغل مو عيب، صحيح دخل الشغل مو كبير بس شرف المهنة بكفي”.
ظروف الحرب الاقتصادية في سوريا، دفعت الكثير من الناس للبحث عن أي عمل يؤمن لهم مصدر دخل، في ظل فقدان الكثيرين وخاصةً النازحين لأعمالهم، ليلجأ البعض إلى مهنة “ماسح الأحذية” بعدما فشلوا في العثور على أي عمل آخر يناسبهم، وهناك من أدخل الى تلك المهنة بعض الإضافات ليزيد نسبة دخله، بينما ترك آخرون تلك المهنة وبحثوا عن مهنةٍ أخرى ذات مردود مادي أكبر.
يتجول أبو أسعد بين الشوارع أو يجلس في الساحات الرئيسية، أو أمام الدوائر الرسمية والشركات الخاصة ويسأل المارّة، “أتُريد تلميعه؟”، أملاً في أن يعثر على زبائن يريدون تلميع حذائهم لتأمين رزق يومه.
يقول أبو أسعد دهنين لفوكس حلب “منذ كنت طفلاً أخرج مع أبي لأعمل معه في مسح الأحذية، وكنت في كثير من الأحيان أخرج بدلاً عنه حين يكون مريضاً، وبعد وفاته تكفّلت بإعالة أهلي كوني الابن الأكبر، وكان رزق ذلك الصندوق الخشبي هو من يعيلنا إلى جانب عمل أمي في تنظيف المنازل”.
وتابع أبو أسعد حديثه وهو جالسٌ في ساحة الساعة بمدينة ادلب “انظر حولك في هذه الساحة تستطيع رؤية العديد من الأشخاص الذين يعملون في هذه المهنة من مختلف المناطق، فقدوا أعمالهم في بلدهم فوجدوا في مهنة البويجي حلّاً، كونها مهنة سهلة التعلم وتحتاج إلى رأس مالٍ بسيط، ليكون موظفو المؤسسات المدنية والمنظمات والشركات الخاصة هم الزبائن المفضلين، فهؤلاء يسعون للظهور بمظهر جيد أمام الآخرين”.
طرق لجذب الزبائن
بعض ماسحي الأحذية سعوا إلى تطوير مهنتهم لزيادة دخلهم، من خلال قيامهم بإصلاح الأحذية إضافةً إلى تلميعها، يقول ياسين سليمان (مهجّر من بلدة سقبا في الغوطة الشرقية) لفوكس حلب “بعد تهجيرنا الى الشمال السوري أقمت مع عائلتي في مدينة اعزاز بريف حلب الشمالي، وكنت أعمل سابقاً في المفروشات لكني تعرضت لغارة جوية أدت الى بتر أحد قدميّ”.
لم يجد ياسين عملاً يتناسب مع وضعه الصحي، فقرر العمل في مسح الأحذية، ليضيف قائلاً: “ما شجّعني على العمل في هذه المهنة، أنها لا تتطلب الوقوف على الأقدام أو السير، فقمت بتفصيل صندوقٍ خشبي مخصص لمسح الأحذية، وكنت أتقاضى أي مبلغ من الزبائن حتى لو كان قليلاً، فوضع الناس في المناطق المحررة ليس جيداً، وليس لديهم القدرة على دفع مبلغ كبير مقابل مسح الحذاء، إضافةً إلى أن الكثيرين هناك يعتبرون مسح الأحذية مجرد ترف”.
وتابع ياسين قائلاً: “بحكم وضعي لا أستطيع التجول في الشوارع لإلتقاط الزبون المناسب كباقي الأطفال والشبان، الذين يستخدمون عبارات مختلفة لجذب الزبائن منها (بــ 25 رجّع حذاءك جديد أو عطيني لمّعلك الحذاء وادفع شو ما بدك)، لذا لم تعد هذه المهنة تطعم خبزاً لمن هو غير قادر على الحركة واصطياد الزبون، وما يزيد الطين بلّة أن هناك من يُفاصلنا حتى على أجرة مسح الحذاء”.
بعد خمسة أشهر من عمل ياسين في هذه المهنة عانى كثيراً من سوء المردود المادي، فكان الزبائن يعطونه من 25-50 ليرة سورية، كما أن كثرة “البويجية” خلق نوعاً من المضاربات بينهم، إذ يقوم البعض بإغراء الزبون بالسعر القليل لجذبه، لذلك كان دخل ياسين الشهري يتضاءل في كل شهر، ولا يكفي لتأمين متطلبات المعيشة، بالتزامن مع ندرة المساعدات الإغاثية التي تقدمها المنظمات.
ويختلف الدخل اليومي لماسح الأحذية حسب نشاطه وخبرته بالأماكن الحيوية، وكذلك قدرته على إقناع الزبون بمسح حذاءه، ويبرع فيها الأطفال الذين يتشبثون بالمارة، ويُصرّون عليهم لمسح حذائهم، وفي العموم تتراوح اليومية، ما بين 500 إلى 800 ليرة، أي بمتوسط دخل شهري يقدر بحوالي 20 ألف ليرة.
قلة المردود المادي دفعت الكثير من العاملين في مسح الأحذية إلى التفكير بحل آخر، فاشتروا ماكينة صغيرة لخياطة الأحذية المهترئة تعمل على حركة القدم، إضافةً إلى تركيب نعال للأحذية، أو لصقها بمادة لاصقة، ما ساهم في زيادة مردودهم المادي.
يقول ياسين “بعدما اشتريت ماكينة لخياطة الأحذية تحسن دخلي، فأسعار الأحذية باتت مرتفعة، لذلك أصبح الناس يلجأون الى إصلاح أحذيتهم بــ 100 ليرة سورية بدل دفع ثمن حذاء جديد، وهذا طبعاً ساهم في مضاعفة دخلي المادي الذي يصل تقريباً إلى 40 ألف ليرة سورية”.
“صندوق المتاعب”
مهنة “البويجي” مليئة بالمتاعب والعقبات، فهناك كثير من المشاجرات تحصل بين “البويجية” نتيجة المضاربات في الأسعار والصراع على الزبون، كما أن كثيراً من الزبائن يدفعون مبالغاً بسيطة لا تتجاوز 25 ليرة.
وبعد كل نهارٍ شاق يحمل ياسين على كتفه “صندوق المتاعب” كما يسميه ويعود إلى البيت متكئاً على عكازٍ يعينه على السير بقدمٍ واحدة، ليضيف “أصبحت أعاني من آلام الظهر والمفاصل نتيجة الجلوس الطويل والانحناء لتلميع الحذاء”.
ويتألف صندوق البويا من مكان لوضع حذاء الزبون، ودروج صغيرة توضع فيها القطع القماشية وصبغات البويا، فلكل حذاء صبغة خاصة حسب لونه، وقطعة قماشية خاصة لتنظيفه.
ويتعامل “البويجي” مع أربعة ألوان فقط، ويبدأ عمله بعد أخذ الحذاء من الزبون بغسيله وتجفيفه، ومن ثم وضع البويا وتلميعه بالفرشاة، ويعيد تلميعه باستخدام المادة الشمعية حتى يصبح جاهزاً، وتتراوح المدة المستغرقة في تلميع الحذاء بين 10 – 15 دقيقة، وتكون الأجرة ما بين 50 – 100 ليرة سورية، والبعض يدفع أكثر من ذلك.
متاعب مهنة “البويجي” تلاحق حتى الأطفال الذين يزاولونها، يقول قتيبة صاحب الـ 14 عاماً والذي يعمل في إحدى ساحات مدينة حلب “يجلس عدة أشخاص يعملون في مسح الأحذية أغلبهم أطفال، وحين يأتي زبون يبدو عليه الثراء تجد الجميع يتسابق عليه، ما يُسبّب نفور الزبون وعزوفه عن مسح حذائه، عندها يتشاجر الأطفال مع بعضهم وكل واحد منهم يلوم الآخر على ضياع الزبون”.
وأضاف قتيبة “في كثير من الأحيان يأتي عناصر من النظام والشبيحة يطلبون منا تلميع أحذيتهم العسكرية، ورغم تلميعنا الحذاء عدة مرات وتعرضنا للإهانة من بعضهم، يرفضون دفع أي مبلغ من المال، وفي أحد المرات طلبت من شبيح الأجرة، فقام بدفعي على الأرض ووضع حذائه فوق رقبتي”.
هاني العبد الله