على مقربة من حياة الخيام المفروضة على السوريين المهجرين، كنت أتلمس (صوفاج) التدفئة في بيتي، خائفاً من عطل أصابه منذ أيام أن يعود، وقتها حُرمت متعة الجلوس خلف النافذة بـ “قميص الشيال” وأنا أنظر للمطر، أنفث دخان سيجارتي وأرتشف ببطء قهوتي الباردة، ينقر المطر بحباته على النافذة وأتيه أنا في معادلة غبية بين حبي وكرهي للمشي تحت المطر، واستعادة شيء من الذاكرة عن مشاوير قضيتها مرغماً مع حب صادفته ذات يوم، وكانت شريكتي فيه تحب “البلل” هكذا كنت أدعوه وسط امتعاضها من قلة مشاعري.
مشاهد كثيرة مرّت أمامي مساء أمس وأنا أقلب صور الخيام الطافية على الماء، استعارات لجمل كثيرة ومكررة من النقد الذاتي، وتحميل المسؤولية، وغياب الإنسانية وموت الضمائر، أذكر أني رأيتها في العام السابق، وأعتقد جازماً أني قرأتها قبل ذلك، في أعوام سابقة، كلها أعادتني إلى أم سعد بطلة قصة غسان كنفاني حين “خيمة عن خيمة تختلف”، لأسأل نفسي مجدداً أيضاً، هل كان ذلك الرجل المحموم بقضيته كاذباً حين فرّق بين خيمة عزّ وذلّ؟ وهل كانت أم سعد تعني ما تقوله حين تساءلت عن إمكانية رحيلها إلى ابنها سعد الملتحق بالفدائية تطهو لهم الطعام وتشد أزرهم في خيامهم، قبل أن تلتفت إلى أطفالها الصغار، وتطلق عبارة بمعناها أن “الأطفال ذل”، كونهم يقيدون حريتها في الانتقال من خيمة كل همّها لقمة العيش وسدّ منافذ الريح والعوازل الواقية من “وكف” المطر، إلى خيمة يكون للموت فيها طعم النضال أو الشهادة.
أتأمل صورة لمدفئة فقدت خاصية “الإحراق” وارتمت جثة على أرض الخيمة، تسخر منها المياه وتحركها كيفما اتفق، قبل ساعات فقط كانت عامرة بنار “البلاستيك والأحذية القديمة وألبسة البالة وبعض الأغصان الرطبة”، كانت مصدر خوف للعائلة التي منعت أطفالها من الاقتراب منها، بضع دقائق تمرّ وأنا أتخيل مشهد الصغار وهم يملؤون أرض المخيمات بحثاً عن أي شيء أو كل شيء لتلقيم نار المدفأة، والاطمئنان على “شادرها” كي لا يتحول الدفء إلى كارثة، تتراكب الصورة في عيد الميلاد مع “بسطات” السوريين في كيليس التركية، يبيعون “الكستناء” رفيقة مدافئ الفحم، وصوت “طقطقتها المحبب”، الأم التي أعياها احتراق أصابعها واسودادهما من لون الكستناء بحثت في عروض “المول” عن قشارة كستناء، أما زوجتي فقد افتقدت لها هذا العام، في بيتنا الجديد لا يوجد مدفأة فحم، وتلك ضريبة أخرى علينا أن ندفعها، لنستعيض بغسل الكستناء بالماء ووضعها في الفرن، هناك فرق في الطعم لا نستسيغه، بدت الكستناء كـ “المجدرة” هذا العام، “مفروطة ومجبلة” قالت لي منذ أيام، وكأنها تلومني على ما اقترفته بحقها وحق أطفالي.
في زاوية أخرى على الفيس بوك رأيت من يدعو إلى الله أن يمنع المطر، المأساة التي حوّلت الخير إلى كارثة، شأنها بذلك شأن أيام الصحو يوم كان الناس يرجون الله في حلب أن يمنع الأيام الدافئة، فالمطر والضباب والريح تمنع المروحيات من الطيران، وتنقص من أعداد شهداء البراميل المتفجرة، الأجواء غير الملائمة للطيران كانت فسحة للحياة، الناس تخرج من بيوتها للحياة غير آبهين بالمرض والبرد، الأطفال يلعبون في الشوارع، والآباء يخرجون للتسوق والنساء للزيارات، لم يكن عليهم في ظل مناخ مشابه أن يحتمون بجدران الأبنية، ولا النظر إلى السماء بل القفز فوق برك الماء بما يشبه متعة الحياة بعيداً عن الموت.
لم تعد أنشودة مطر السياب تتردد على الألسنة بوصفها ثورة على الاستغلال والجوع، فلازمة المطر التي رافقتها كدليل على الوفرة والغنى في العراق الجائع، أصبحت لازمة للغرق والموت والنزوح في حالتنا السورية، هو استغلال من نوع آخر لا يفضي للموت جوعاً والذي اختبرناه لسنوات طويلة، ولكنها باتت تستوجب الرحيل عن الأمكنة التي أصبحت وطناً دائماً بذكريات، رحيل مؤقت لساعات ريثما يجف المطر وتبتلعه الأرض مع ما تبقى من أثاث وثياب بالية وعلب مؤونة قليلة وأغصان صغيرة وضعت على أطراف الخيام لـ “وقدة طعام أو دفء”، هذه المرة أيضاً خلافاً لقضية أثارها أمل دنقل في حواره مع “ابن نوح” يوم الطوفان العظيم، فلا سفينة مؤهلة لحمل الجميع بعد أن أغرق الطوفان الخيام متجنباً بيوت المسؤولين ودار البريد ومقرات الفصائل ومكاتب المنظمات والإغاثة، هؤلاء وحدهم، ونشترك معهم نحن الذين لجأنا إلى دول متفرقة، من ركبنا قوارب لا تتسع إلا لعائلاتنا لننجو، أما سكان الخيام فلم يبحثوا عن مجد ضائع، لم يرفضوا النزوح والفرار، إلّا أن القوارب لم تعد تتسع، وكان لزاماً عليهم “حب الوطن”.