“إذا ما التقيت بعبد الله الخضر ولعبنا منقلة كل يوم بحس بشي ناقصني”، يقول مصطفى الفرحات (79 عاماً)، بعد أن أصبحت لعبة المنقلة جزءً من حياته اليومية، معبّراً عن ولعه وأبناء جيله من كبار السن بها، وانتقلت في الآونة الأخيرة لتغدو محط اهتمام الشبان، خاصة مع انعدام وسائل الترفيه الأخرى وغياب الكهرباء وظروف الحرب التي أفضت إلى أوقات طويلة من الفراغ والملل.
والمنقلة لعبة لوحية قديمة معروفة منذ مئات السنين، وفي أماكن متعددة من العالم، ووجدت آثار تدل عليها في الكثير من الحضارات القديمة، لتتطور مع الزمن، سواء من حيث الشكل أو طريقة اللعب، وفي سوريا ارتبطت هذه اللعبة بالمتقاعدين وكبار السن، خاصة في الأرياف السورية، وتلعب بطريقتين تعرفان بـ “المجنونة” و “العاقلة”، ويظن أنها من الألعاب الموروثة إبان الحكم العثماني، إذ تشهد المنقلة رواجاً كبيراً في الأراضي التركية.
وتتألف المنقلة من قطعة خشب طولها عادة 65 سم وعرضها 15 سم، تتوزع فيها 14 حفرة تدعى (الجرن) على شكل صفين متقابلين (سبعة في كل جهة) ومجموعة أحجار تدعى (حصى) عددها 98 حجراً، تلعب من قبل لاعبين اثنين وفقاً لأصول وقوانين معينة تحكم اللعبة التي تعتد على العدّ والحساب والصفاء الذهني، وهي تشبه بذلك لعبة الشطرنج.
خالد الفرحات (أحد لاعبي المنقلة) يتحدث عن فكرتها ويصفها بـ “البسيطة” موضحاً كيفية ممارسة اللعبة “بتوزيع الحصى بالتساوي سبعة في كل جرن، ليبتدئ اللعب من قبل أحد اللاعبين بما يسمى الكسر –وهو أن يختار أحد الجرون السبعة من جهته ويقوم بتوزيع الحصى على الجرون التالية بمعدل حصاة لكل جرن، ومن ثم يتناوب اللاعبان على التوالي باختيار الجرون للقيام بعملية توزيع الحصى”.
وتعتبر طريقة لعب المنقلة المجنونة الأبسط والأسهل والتي تنتشر بين المبتدئين، ويُحدد الرابح فيها بمن يمتلك أكبر عدد من الحصيات، وذلك بعد تنقيلها بعكس عقارب الساعة بوصول الحصى في الجرن إلى اثنين أو أربعة فيربح ما فيه إضافة إلى الجرن الذي يقابله.
أما العاقلة فهي الأصعب والتي تحتاج إلى مهارات حسابية أعقد، وعلى الرغم من التشابه بين اللعبتين في تصنيف الرابح بمن يملك أكبر عدد من الحصى، إلّا أنه في العاقلة على اللاعب اختيار واحد من الأجران وتوزيع حصياته على باقي الأجران ابتداء من اليمين وبشكل دوري، وعليه حساب اختياراته بما يتناسب مع عدد الحصى في أجران خصمه وكيفية التأثير عليه، بحيث يحصل على الحصى المساوية للرقم اثنين أو أربعة.
ويخسر اللاعب دوره في المجنونة عند وصوله إلى جرن فارغ، أما في العاقلة فينتهي دوره عند وصول نهاية حصياته إلى جرن فراغ أو على عدد لا يساوي اثنين أو أربعة، بحسب عبد الله الخضر (أحد اللاعبين) الذي أضاف أن اللعب يتخذ طابع الندية، ويصل أحياناً إلى التحدي، خاصة عندما يخسر اللاعب ثلاث مرات متتالية “يلي بيسمع أصواتنا ونحنا عمنلعب بيظن أنو نحنا أعداء وفي مشكلة بيناتنا، بس بالحقيقة بيكون كل صياحنا حول حصوة نقلها لاعب من جرنها بهدف الغش”. ويتابع “لكن ما يلبث خلافنا أن ينتهي كعادته بابتسامة لكل منا متجاوزين هذه العثرة مع تنازل أحد منا للآخر”.
لا تقتصر حلقات المنقلة على اللاعبين، بل للعبة جلساؤها وجمهورها، إذ تتحول إلى نوع من التواصل الاجتماعي، وتبادل “الطرائف” والتشجيع من قبل الموجودين، خاصة من الشبان الذين اعتادوا في الآونة الأخيرة حضور هذه اللعبة، وإضافة شيء من الحماسة والتحدي بين اللاعبين، تتخللها جلسات وأحاديث وقصص يرويها كبار السن للمتعة والفائدة، يقول الحاج مصطفى الذي اعتبر ما يرافق لعبة المنقلة من طقوس تشبه الاجتماع في المناسبات والأفراح، ليصفها باللقاءات “الحميمة”، بعد أن غزت الألعاب الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي بيوت أهالي القرى، واستقطبت على اهتماماتهم، وساهمت في عزلتهم عما يدور حولهم، فـ “معظم الشبان يتوحدون اليوم مع هواتفهم المحمولة، يضحكون ويبكون ويمتعضون ويعبرون عن مشاعرهم منفردين، وهو ما يضعف العلاقات الاجتماعية ودورها في بنية المجتمع الريفي بشكل خاص، والذي امتازت علاقاته على مر العصور بالتآلف والتشاركية”، وهو ما عبر عنه الخضر بقوله “لا اعلم كيف يستمتع شباب اليوم بطعم النصر إذا لم تكن أنت والخصم وجهاً لوجه، لتشاهد علائم الهزيمة على وجهه وتظل تذكره بها كلما رأيته مع عبارات فيه الكثير من السخرية المحببة”.
بعيد صلاة الظهر من كل يوم، يفترش الحاج مصطفى وصديقه عبد الله الخضر الأرض، تحت شجرة التوت التي تفصل بين منزليهما، لتبدأ معركة جديدة على قطعة خشب المنقلة، بينما يبدأ بعض أهالي القرية بـ التقاطر إلى المكان لمعرفة الفائز الجديد.