لم يعد زائراً يمرّ على عجل، يحتاج لمبررات للزيارة، يأتي مهيباً لزيارة مريض أو عاجز أو مسن، مصادفة كان يطرق باب أحد شبان القرية أو أطفالها، يجلس لثوانٍ على التلة الصخرية في الجهة الجنوبية، قِبلته دائماً، ثم يودّع المكان بمراسم جنائزية، بات الموت في قريتنا، في السنوات الأخيرة، مواطناً أبرم اتفاقيته مع أهاليها، رافق شبانها وأطفالها، واتخذ له وسط المقبرة الجنوبية القديمة سكناً جديداً، أطلق عليه “مقبرة الشهداء”.
آخر القبور كانت لأخي ذو الثلاثة عشر عاماً، قتله مرض السحايا باكراً، حين كنت أقلب صوره ومقاطع صوته على الهاتف المحمول، كسرني ذلك الشعور بالضعف، اختنقت، خرجت للبحث عن بقايا نفس، كان الوقت قد شارف على الحادية عشر ليلاً، قادتني قدماي إلى المقبرة، لأجد نفسي هناك أقلب التراب بيدي، وأشم رائحة التراب والريحان.
غالباً ما كانت المقابر تأخذ لنفسها مكاناً متطرفاً في قرانا، بعيداً عن بيوتات القرية وشوارعها الرئيسية، تجنباً للمخاوف، فالليل والمقابر ضدان لا يجتمعان معاً في مكان واحد، سيقت فيهم القصص والأساطير، وحفّت الحديث عنهم المخاوف وحكايات الجن وشجاعة الشبان بالمرور ليلاً من مقبرة، تلاصقت قبورنا ببيوتنا في السنوات الأخيرة، لعله الحنين الذي بات أكبر لمن رحلوا في غفلة عنا، أو سطوة الساكن الجديد الذي يمضي كل يوم برفقة أحد شباننا، أو الهيبة التي كسرت مع ازدياد الموت الذي غدا حدثاً اعتيادياً، يستوجب التوقف لدقائق، قبل أن تكمل الحياة دورتها.
الطقوس التي كانت ترافق الموت، اختلفت أيضاً، لم تعد الثكالى والأرامل تزور المقابر عصر كل يوم خميس، تزور أحبابها وتشتل الريحان وتسقي التراب على قبورهم، وغابت عن جيوب الجدات حفنات “الملبس” التي توزعها على الأطفال طالبة منهم قراءة الفاتحة، يبتسم الصغار وتغرق الأمهات والعجائز بلباسهن الأسود وحزنهن الذي لا ينقضي، بعد أن حرّمن على عيونهن الكحل وفاء لمن غابوا، لم يعد صوت المئذنة مقلقاً أيضاً، كلما اهتز صوت مكبر الصوت في غير وقت الأذان، مترحماً على فقيد، لتجتمع القرية شيبها وشبابها نساؤها وأطفالها في بيت الفقيد، يؤازرون أهله ويبكون مع الباكين، تُرفع أجهزة التلفاز، وتمتنع النساء عن نشر الغسيل والسجاد لأيام كثيرة، ويعلو الغبار الطرقات حين يحتج الحزن على “مكانس القش”، ولعام كامل يفقد الخاصة من أهل المتوفى مظاهر الفرح ولبس الألوان الزاهية وكعك العيد وزياراته.
مع اعتياد الموت تلاشت كل الرسميات التي كانت ترافقه في زياراته السابقة، واختلفت مبرراته لأخرى لم تكن تخطر حتى في الخيال على عقول أولئك الناس، اختيرت مفرداته الجديدة من قاموس الحرب، أمسى خبراً متوقعاً يطرق المسامع في كل لحظة وكل مكان وكأنه شيء مألوف، إذ لم يعد الميت ذلك العجوز الذي وافته المنية على فراشه وفي بيته وبين أهله، وإنما طفل مات بضربة قذيفة في مدرسة، أو شاب استشهد في معركة، أو رجل نالت منه شظية أثناء ذهابه للعمل، أو حتى عائلة بأكملها، أو امرأة في السوق، ومرات لم تكن الضحية فرداً واحداً، بل مجموعة “مجزرة”.
لم نعد نخاف المقابر، باتت أنيسة جدّاً، هناك شعور آخر بالحب والشوق بات يرادونا للمكوث هناك، كان عليّ أن أزروها يومياً، وأحياناً لمرتين في اليوم لتهدأ روحي، صارت المقابر وطناً لعائلتنا التي فقدت خلال سنوات الحرب أكثر من ثلاثين شخصاً، وعشرة أطفال، وبات الترقب والسؤال المسيطر، يا ترى من سيكون الساكن الجديد هذه المرة.
قريتنا ككل القرى المقسمة إلى شرقية وغربية، وبينهما ما صنع الحداد، بدت قبورها متداخلة إلى حد التلاصق، قلت في نفسي إن الموت يوحدنا فها نحن ننظر إلى طوائف القرية كلها في مكان واحد، يجمعنا الفقد والحزن، وربما الحب هذه المرة.
حين مات جدي، أنا الطفلة الصغيرة الأثيرة لديه قبل موته، كرهت المقبرة، تشاءمت من وجودها، بعد أن تغلبت حفرة على طفولتي، أهرب من أصابع أمي التي تلتقط يدي في زيارتها “الخميسية”، أقتلع الأزهار وشتلات الورد من على القبور المجاورة، لأهديها لروحه، وأغرق في صمت طويل، في كل مرة كانت جدتي تقترب من قبره وتتمتم بكلمات خجولة خشية أن يسمعها أحد، “سولف يا قبر / ش خبار الحباب/ لبسوا أبيض غطاهم التراب/ واحنا لبسنا أسود يوم عافونا”.