هناك حافلة خضراء واحدة ما زالت عالقة حتى الآن في ساحة العامرية بحلب، ركابها لم تكتمل بعد، بعضهم تأخر وصوله، آخرون أعاقهم الهدم والأنقاض التي ملأت الشوارع فتعذر لحاقهم بركب المهجرين قسرياً، أشياء اختارت البقاء فليس في قاموسها أن تُجبر على المغادرة، القادمون الجدد لم ينتبهوا لوجودها في الأصل، ربما قاموا بتعفيشها، هي الآن تسكن ربما في واحد من بيوت الشبيحة، تمارس رقابتها على الوقت، تتوضأ كلما لمستها يد ملوثة بدماء أصحابها، وتنتهز الفرصة لتقيء كلما غابت أعين رجال الأمن.
على جدران حلب الشرقية الآيلة للسقوط، عبارات لم تهجر هي الأخرى، مسح بعضها على عجل بطلاء أسود، ما زالت كلماتها تشفّ، معلنة حقاً للعودة، أو مبادئ للحرية، أو إسقاطاً للنظام، أو صوراً لأعلام بثلاثة نجوم، يبدو المشهد متداخلاً مع فرض العلم بنجمتين خضراوين على أصحاب المحلات الجدد، فهناك كساد بعلب “الدهان الأخضر”، يشبه ذلك الذي فرض على أهالي المدينة يوم اختيرت حلب “عاصمة للثقافة الإسلامية”، وقتها أجبرت المحافظة الجميع على طلاء “درابيات المحال” باللون الأخضر الذي بدأ ينفذ من الأسواق، لعله أرخص الألوان كما كان الناس يتداولون في أحاديثهم، فـ “هناك صفقة بملايين الليرات عقدت على عجل، ووضعت في حساب المتنفذين وقتها” هو الأخضر ذاته الذي كان لوناً لحافلات التهجير القسري.
الأخضر الذي كان لوناً لمشجعي نادي “الحرية” القليلين في حلب، مقابل أحمر “الاتحاد” الذي كان يغطي المدينة وفي كل مباراة للجارين وأمام كل نقاش كروي حادّ، كان مشجعو الأحمر يصفون من يقف إلى جانب الحرية بـ “البويجية” دلالة على الفقر والتمايز الطبقي.
الأخضر لون قبور “الأولياء” في المدينة، والتي كانت مكاناً للتبرك وإشعال الشموع، يكفي أن يرتدي القبر قماشاً بلون أخضر حتى تؤمه الناس، وهو لباس “الدراويش” والمبروكين، في طرفة يتناقلها أهالي المدينة أن قبراً لرجل قتل سبعة أشخاص في حياته طلي بالأخضر، وكان ذلك كافياً لزيارته من قبل أصحاب الحاجات والتبرك به عسى أن يوصل أمنياتهم ومطالبهم إلى الله لتحقيقها.
هو نفسه اللون الطاغي في المزارات الشيعية والتي بحجتها جاء آلاف المرتزقة إلى سوريا للدفاع عنها من إيران والعراق إلى جانب نظام الأسد، وقتل أبنائها الثائرين.
قدر المدينة أن تغطى بالأحمر لون “سيراتيل” أول شبكة للهواتف المحمولة، والتي سرقت أحلام الناس ونقودهم ومقهى “منتدى الشام” خاصتهم، وحوّلته إلى مركز بيع معتمد بعد أن استبدلت ضحكة النادل “أبو عبدو” بفتيات وشبان بلباس كحلي وابتسامة مصطنعة والكثير الكثير من اللون الأحمر.
عامان مرّا على ذكرى التهجير القسري لأهالي حلب الشرقية، بعد التصنيفات الجديدة، حملوهم هذه المرة إلى ريف حلب الغربي وإدلب، الخضراء أيضاً، والتي بقيت منسية طيلة عقود، خالية من أي إنجازات حكومية، فلا مصانع كبرى ولا اهتمام بآثار المدينة العريقة ولا زيارات رئاسية، هي “لعنة الأخضر مرة أخرى”.
الأخضر لون “خرطوم المياه البلاستيكي” الذي رافق المعتقلين في سجونهم، والذي ترك آثاره على أجسادهم، وهو الاسم الأول لمبعوث الأمم المتحدة والجامعة العربية إلى سوريا، والذي باءت كل محاولاته بالفشل، أما طغيان الدم والحرب.
الأخضر أيضاً، هو اللون الذي يشبهنا نحن الثوار السلميين الذين أردنا لبلادنا السلام، والتخلص من الطغاة، قبل أن تسرق أحلامنا الرايات السوداء والحمراء والبيضاء والتي غاب عنها لوننا الذي يعبر عنا.