ليس جديداً في سوريا أن تنال المواقع الأثرية حظها من الإهمال والتجاوزات، زاد عليها في السنوات الأخيرة الدمار الكبير الذي طالها نتيجة القصف من قبل قوات النظام وحلفائه، والحفر والتنقيب العشوائي من قبل عصابات سرقة الآثار والسكان المحليين، ما سبب انهيارات في هذه المواقع وضياع الكثير من معالمها، وفقدان عدد من قطع الأثرية، ولعل أهم هذه المواقع كانت مملكة إيبلا، واحدة من أقدم الامبراطوريات في تاريخ الشرق الأدنى القديم، والتي أحدث اكتشافها في النصف الثاني من القرن الماضي ثورة علمية وتاريخية، ساعدت في فهم التاريخ ووثقت لحقب ماضية وفي مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
يتألف موقع مملكة إيبلا والذي اكتشف في العام 1968 في تل مرديخ (22كم عن مدينة إدلب) بالقرب من مدينة سراقب، وعلى يد بعثة إيطالية برئاسة عالم الآثار “باولو ماتييه” من مدينة منخفضة ومدينة مرتفعة (الأكروبول)، بنيت مساكن المدينة المنخفضة البسيطة باللبِن بدون أساسات حجرية أما الأكروبول فهو مركز المدينة ويتألف من صخور كلسية بنيت فوقها المعابد والقصور ويفصلها عن المدينة شارع عريض، وعثر فيها بعد التنقيب على القصر الملكي والمحفوظات الملكية بين عامي 1974-1975، وتعدّ مملكة إيبلا من أهم المواقع الأثرية التي تعود إلى العصر البرونزي.
يقول أيمن نابو مدير مركز آثار إدلب لـ (فوكس حلب) “إن طبيعة أبنية إيبلا الطينية تجعلها بحاجة لعمليات تدعيم سنوية قبل حلول فصل الشتاء، وذلك لحفظها من العوامل الجوية(أمطار-رياح) ومن تآكل الجدران مع مرور الأيام”، وهذا ما قام به مركز آثار إدلب في عام 2015، بتدخلهم بـ “مشروع إسعافي طارئ” لحماية جدران معبد عشتار التي أوشكت على الانهيار بسبب الفراغات والحفر أسفلها. كما تم تدعيم الدرج المؤدي إلى القصر(ج) وذلك بـ “نفس الطريقة التي اتبعها باولو ماتييه قبل الثورة”. تظهر الصور الفوتوغرافية التي قدمها المركز لـ (فوكس حلب) عمليات جادة لتدعيم الأساسات المتعرضة للانهيار بقطع من (البلوك) مع الملاط المصنوع من اللبن ثم طلي هذه الجدران بالطين حتى تغدو بمظهر ملائم للجدران الأصلية.
إضافة لعمليات التدعيم قام المركز بتوثيق الحفر الناجمة عن عمليات التنقيب العشوائي في الأكروبول حيث “تم توثيق مئات الحفر عبر تزويدها برقم مكتوب على قطع رخامية دفنت داخلها، ثم قام الفريق بكتابة كافة المعلومات المتعلقة بها في سجلات خاصة موجودة بمتحف إدلب”.
في أيلول من العام الماضي تعرض موقع إيبلا لقصف عنيف نفذته مقاتلات حربية روسية أدى لأضرار جسيمة لم تعد تنفع معها الجهود البسيطة لفريق مركز آثار إدلب بإمكانياته المتواضعة، فاكتفى بمجرد توثيق الأضرار والانتهاكات التي خلفها القصف.
بغياب الجهات المسؤولة والقوانين الرادعة لمنع عمليات التنقيب في المواقع الأثرية، تعرضت إيبلا بين العامين 2015-2017 لحفر عشوائي في كافة مواقعها، الأمر الذي تلاحظه من كثرة عدد الحفر في المنطقة والتي تجاوز عددها المئات، بالرغم من الجهود التي بذلها الفريق المكلف بحراسة الموقع، إلا أن “قلة الوعي لدى الأهالي واعتقادهم بوجود الذهب والقطع الأثرية ذات القيمة المالية المرتفعة أدت لفشل جميع هذه المحاولات”.
تعد الألواح الطينية المكتوبة باللغة الإيبلاوية “المسمارية المقطعية” والتي عثر عليها في مكتبة القصر الملكي من أهم مكتشفات المملكة، وقد نقلت هذه الرقم التي يبلغ عددها ما يقارب 15ألفاً، بين رقم كاملة وكسرة رقيم، إلى متحف إدلب فور العثور عليها، ولكن ومنذ بداية الثورة فقدت مئات الرقم من مستودعات المتحف الذي تعرض للإهمال خلال السنوات الأولى للثورة. ويشير نابو “أنهم لا يستطيعون حالياً إعطاء عدد حقيقي للرقم المتواجدة في المستودعات، ريثما ينتهي الفريق من عمليات الجرد والتوثيق”.
تشتمل نصوص الأرشيف الملكي على موضوعات متنوعة اقتصادية وإدارية ومراسيم ملكية وبعض المعاهدات مع المدن والدول المجاورة والبعيدة في سورية وفي بلاد الرافدين، وقوائم بأسماء المدن التي كانت تتبع لإيبلا، إضافة لعقود تجارية وحسابات إنتاجية تخص صناعة الأنسجة والتعدين، ومن أهم هذه الرقم تلك التي تحوي ألفاظاً باللغة الإيبلاوية ومقابلاتها باللغة السومرية التي أدت لحل رموز لغة إيبلا المحلية.
ولتحقيق أعمال جادة تحافظ على ما تبقى من آثار إيبلا حاول عدد من الأكاديميين بجامعة إدلب التواصل مع “باولو ماتييه” مكتشف إيبلا ورئيس البعثة الإيطالية لكن دون جدوى، فقد جوبهت برفض “ماتييه”، الذي وعد في أيلول من العام 2014 خلال تظاهرة ثقافية أقامتها المديرية العامة للآثار والمتاحف التابعة للنظام بأنه “فور انتهاء الأزمة السورية وعودة الأمان إلى البلاد فإن البعثة الإيطالية مُستعدّة على الفور لمتابعة عملها بكل جد وحرص، لكي تنهض بسورية من جديد ولكي تحمي تراثها”.
كجهة فنية تختص بحماية آثار إيبلا وإدلب بشكل عام تواصل “مركز آثار إدلب” مع منظمة اليونسكو بهدف تعريفها على أهم المنجزات التي تمت على يد الفريق، وللتعاون مع المنظمة الدولية لتنفيذ مشاريع ترميم وتنقيب في المستقبل، لكن هذه الطلبات قوبلت بالرفض حتى اليوم، مع “وعود بحدوث اعتراف رسمي في أقرب وقت”. يقول مدير المركز “نحن نعمل ضمن الإطار القانوني الدولي ومع ذلك لم نحصل على اعتراف رسمي من اليونسكو”.
يحارب النظام بدوره جميع الجهود التي يبذلها مركز آثار إدلب وغيره من المختصين والأكاديميين لحماية آثار إدلب و”للأسف لا تزال اليونسكو والبعثة الإيطالية تحصران تواصلهما وتنسيقهما حول هذا الملف بالمديرية العامة للآثار والمتاحف التابعة للنظام” يؤكد “أيمن نابو” بحسرة واضحة شاكياً من غياب الشعور بالمسؤولية من قبل المنظمات الدولية تجاه واحدة من أعرق المواقع الأثرية في الشرق الأدنى القديم.
وللحفاظ على إيبلا وبقية المواقع الأثرية، يسعى مركز آثار إدلب بالتعاون مع المجالس المحلية في المحافظة لتطبيق قانون يجرم العبث بالآثار وعمليات الحفر العشوائية وقد “تمت المصادقة على هذا القانون من قبل المعنيين وسيتم تعميمه قريباً”.
طال الظلم مملكة إيبلا منذ اكتشافها، سواء من قبل النظام أو الفصائل الثورية وحتى الأكاديميين والسكان المحليين، فلم يحمها أحد في زمن الحرب ولم يختص أي باحث سوري في لغتها وتاريخها في زمن السلم.. بل انحصرت قراءة رقمها الطينية ببعض الباحثين الإيطاليين، هذه الرقم الهامة؛ التي لم يقرأ من نصوصها سوى 8 بالمائة حتى اليوم.