لا يقصد هنا بمفهوم “العنف” حالات الشجار المترافقة بالصراخ وبعض الألفاظ التي تفلت من الألسن بحالة غضب، بل ذلك العنف الممنهج المقصود والذي يتحوّل إلى نوع من الأذية الجسدية والنفسية التي غالباً ما تترافق مع نظرة دونية للمرأة وتشييئها، في ظل عادات وتقاليد موروثة، أجبرت المرأة على السكوت والرضى بـ قدرها، خاصة في المجتمعات الريفية المحكومة بسلطة عائلية تفترض المسؤولية المباشرة عن المرأة باعتبارها “مملوكة” لا شريكة حياة.
وفي الوقت الذي ازدادت به نسبة “المعنفات” في المجتمع السوري، لأسباب كثيرة تتعلق بالظروف الحياتية والمعاشية والضغوط النفسية التي خلفتها الحرب، بدأت ظاهرة الدعاوى القضائية بحق الأشخاص الذين يمارسون “العنف” ضد النساء بالانتشار أيضاً، وخلافاً للمتوقع، فقد سجلت خلال الأشهر الأربع الماضية 87 قضية تم رفعها في واحدة من محاكم ريف إدلب الجنوبي، 60 منها لنساء تعرضن لعنف جسدي أو لفظي.
ويعزو بعض النساء السبب في خروج النساء عن صمتهن إلى “ارتفاع حالات العنف، وتجاوزه للحد”، يضاف إلى ذلك انتشار حملات التوعية والنشاطات والبرامج التي عملت على توعية النساء والفتيات وإعادة تأهيل الناجيات من العنف وتقديم الدعم والاحتياجات الأساسية لهن، من قبل المنظمات الإنسانية في المناطق المحررة.
وإن كانت ظاهرة العنف “منتشرة” في معظم دول العالم، بما فيها الدول التي ترتفع فيها نسبة الحريات وحقوق الإنسان، بحسب إحصائيات للأمم المتحدة، والتي أقرت بتعرض امرأة من كل ثلاثة نساء للعنف في العالم، إلّا أن هذه النسبة ترتفع في البلدان النامية، التي يتدنى فيها مستوى الثقافة الأسرية، والتي كانت النساء فيها وما زالت تعاني من “التهميش”، واقتصار دورها على “التبعية المطلقة”، وفي كثير من الأحيان “تلقي العنف، دون أي حق بالرد أو الشكوى”، وذلك بحسب “مزاجية الرجل” تقول المرشدة النفسية إيمان الحميدي، التي رأت في “انتشار المفاهيم الدينية الخاطئة” سبباً رئيساً في تعزيز “العنف”، إذ يتمسك كثر من الرجال بمفهوم “القوامة”، و كلمة “اضربوهن” الواردة في القرآن الكريم، دون معرفة الشرح الحقيقي للآيات الكريمة، متناسين أو متجاهلين حالة “السكنى” المفروضة في القرآن وما تعنيه من استقرار وأمن على الرجل أن يحيط به زوجته، والأحاديث الكثيرة عن النبي محمد (ص) والتي أوصى فيها بالنساء والإحسان إليهن واعتبارهن شريكات في الحياة.
رافق ذلك الفهم الخاطئ للدين، تحول المرأة في بعض المجتمعات إلى مصدر “للعار” و “الدونية”، وانتقال هذا الشعور للنساء ما سبب حالة من “الرضوخ والانكسار” في تكوين شخصيتها، وهو ما أدى بدوره إلى “تفاقم العنف”، فالمرأة “من بيتها إلى القبر”، ذلك الرد القاسي الذي تواجه به النساء عند كل شكوى من سوء المعاملة أو التعرض للعنف، تكمل إيمان.
شهادات لنساء تعرضن للعنف
تختلف طرق التعاطي مع قضية العنف باختلاف النساء، فمنهن من “يضعن على الجرح ملح ويسكتن حتى النهاية”، كحال أم محمد، وأخريات يقمن بالإبلاغ عن عنف “ضاقت به صدورهن وأجسادهن” لسنوات، بينما تتحدث أخريات عن العنف ويدافعن عن حقوقهن بشكل مباشر.
أم محمد (40 عاماً) نازحة من ريف حماة الغربي وأم لخمسة أطفال ابتدأت حكايتها لفوكس حلب بالقول ” فوق الفقر والنزوح والتعب النفسي لسا ضرب وإهانة “، تتعرض أم محمد للضرب من قبل زوجها منذ بداية زواجها، وازداد الأمر سوء بعد نزوحها وعائلتها، تعزو المرأة السبب “للظروف الاقتصادية السيئة التي يعيشونها”، وتلجأ للصمت إزاء “الضرب المتكرر والشتم، بسبب وبدون سبب” على حد قولها، فالتفكير بأطفالها وخوفها من المجتمع الذي لن يتقبل فكرة طلاقها أو رفع دعوى قضائية بحق زوجها يجعلها تتوقف في كل مرة تراودها فيها فكرة الشكوى، لتلجأ إلى الصبر والتحمل بينما يتمادى زوجها في كل يوم بـ “إذلالها”.
أما رانيا (20 عاماً) تبدأ حكايتها قائلة: تزوجت في السادسة عشر من عمري، لم تكن لدي الخبرة والوعي الكافي لتقبل وجود رجل يأمر وينهى ويفرض رأيه بشكل قسري، وعندما كنت أناقشه أو أرفض أوامره كان “يهددني بالسلاح الناري”.
منعت رانيا من زيارة أهلها، وتعرضت للضرب والشتم من قبل زوجها، وفي واحدة من المرات التي تعرضت فيها للضرب كسرت يدها، ما دفعها لرفع دعوى قضائية ضده، رافضة كل محاولات الأقارب لحل الأمر بالطرق السلمية، مصممة “إيصال صوتها للقضاء” وأخذ حقها كاملاً، كما تقول.
في المحاكم
يقول أحد “الكتاب” في غرفة الأحوال الشخصية، رفض ذكر اسمه، “لا توجد احصائية دقيقة للنساء اللواتي يتعرضن للعنف”، والدعاوى المرفوعة لا تمثل الأعداد الحقيقة التي وصفها بـ “الكبيرة”، فمعظم النساء لا تقوم برفع الدعاوى القضائية خوفاً من نظرة المجتمع، أو لإيمانهن بغياب العقوبات الرادعة، والمؤسسات التي تدعم حقوقهن، وهو ما أكدته كريمة ذات الثلاثين عاماً والتي قامت برفع دعوى قضائية على زوجها “بعد أن قام بضرب رأسها بالحائط وركلها بالبوط العسكري” على حد قولها، إلّا أنه لم يبق في السجن سوى لـ “بضعة” أيام، ليعود إلى منزله و “كأن شيئاً لم يكن”، شأنها بذلك شأن أم أحمد التي حكم على زوجها بـ “السجن” لمدة شهر واحد، بعد أن قام بضربها و”كسر يدها”.
قاضي الأحوال الشخصية بريف إدلب الجنوبي قال إن آلية الحكم تختلف من قضية لأخرى، وتتراوح بين التنبيه والسجن والغرامة المالية، إلا أن ذلك “لا يعتبر حلاً جذرياً للمشكلة” يكمل القاضي الذي يرى أنه من المفترض “إصدار قوانين جديدة لحماية الأسرة تضمن حماية حقوق المرأة، وإخراجها من دائرة العنف، وتحقيق الردع” فـ “غياب القوانين الرادعة سهّل لكثير من الرجال الاستمرار في عنفهم”.
مع إطلاق الأمم المتحدة لـ “حملة 16 يوم”، والتي تبدأ في 25 تشرين الثاني وتستمر حتى 10 كانون الأول من كل عام، ضد العنف الممارس بحق النساء، بهدف رفع الوعي وخلق رأي عام مساند في كل مكان لإحداث التغيير ومناهضة كل أشكال العنف الموجهة ضد النساء والفتيات، يبقى العنف الجسدي واللفظي في مجتمعنا دفين المنازل والعادات الاجتماعية البالية، مع بصيص أمل في انتشار “ثقافة الشكوى” للحد من ارتفاع معدلات العنف الأسري، وإيجاد قوانين صارمة لمحاسبة مرتكبيه.