“هاتوا السرفيس لنروح على القمحانة”، عبارة كان يتداولها الأهالي في الأرياف القريبة من بلدة القمحانة التابعة لمركز مدينة حماه، وذلك لشهرتها التي ذاعت بامتهان عدد من “مشايخها”، كما كان يُطلق عليهم، للسحر وكتابة الحجابات بقالب “ديني” في الغالب، لتغدو مكاناَ يلجأ إليه المرضى، خاصة الذين يعانون من الأمراض النفسية، للاستشفاء، والنساء لمعالجة العقم، والشباب لـ “ردّ الحبيب” وفك السحر، والتأليف والتفريق بين الأزواج، والمترفين، خاصة من دول الخليج، للعلاج من “الأرق”، وأحياناً بعض المسؤولين للحفاظ على مناصبهم أو طمعاً في الارتقاء.
يقول محمد السعيد (من جبل الزاوية) إن العبارة السابقة كانت تُساق للتندر، كدليل على “مرض نفسي يقتضي علاجه”، وكانت القمحانة وشيوخها “محط أنظار الجميع” عند عجز الأطباء، ويُدفع في سبيل ذلك “مبالغ كبيرة”، مع قناعة الجميع بـ “عدم الجدوى”، إلّا أن المتاجرة بالفكرة الدينية والحجابات وما يتصل بها، تمتلك “هالة” تجعل الجميع يسعون إليها نتيجة اليأس، إضافة إلى “طقوس الوهم” التي يضيفها هؤلاء “المشايخ” لزيادة التأثير، وإرباك مرافق المريض، وإخافتهم.
يقول أبو محمد (واحد من النازحين من القمحانة) “ارتبط اسم البلدة بمشايخها، فمن يذكر القمحانة لا بدّ أن يضيف إليها ذكر الشيخ صطوف عجاج الذي عرف بكتابة الحجابات التي تحتوي على آيات قرآنية وأدعية لطرد الخوف والتابعة وفك السحر، وولده الشيخ أحمد الذي اشتهر بضرب الشيش، وتسيير حبات القمح على الحائط دون أن تسقط وكأنها صف عسكري” وبموت الشيخين اللذين أعطيا للبلدة شهرتها في هذا المجال ظهر نوع جديد من “المشايخ” يعتمدون على السحر “الإيجابي” بحد قولهم، كأمثال الشيخ محمد الحج فارس، وأولاده ظافر وفارس (لا يزالان يمتهنان هذا العمل حتى اللحظة) وتبعهم أبو مازن الملقب بـ (البعثي!) وعبد الله الطياوي القادم من سهل الغاب والذي التحق للعيش فيها مستنداً إلى سمعتها بالسحر والحجابات.
اختص كل شيخ منهم بمحافظة أو بلد، فأحمد الشيخ (البرصيص) كان يقصده الناس من دول الخليج، الكويت والإمارات بشكل خاص، وقد اشتهر عنه أنه كان يعالج الأرق لدى رواده من المترفين من تلك الدول وذلك بمرافقة المريض برحلة عمل على جرار زراعي منذ طلوع الشمس وحتى غروبها، فما إن يصل تكون طبخة “المجدرة” جاهزة فيتناولها ويغط في نوم عميق ليستيقظ صباحاً هاشّاً باشّاً لتخلصه من الأرق، فيغدق على الشيخ عطاياه. أما ظافر وفارس والطياوي فقد اختصوا بالمترفين من أبناء المحافظات الأخرى كدمشق والرقة وحلب.
اختار أولئك “المشايخ” السكن على أطراف البلدة، على الطريق الرئيسي بين حلب وحماه، لاصطياد زبائنهم ومنعهم من الدخول إلى البلدة، كيلا “يثنيهم” أهلها عن زيارة “المشايخ”، فمعظم سكان البلدة يدركون “دجلهم وأساليب الشعوذة التي يقومون بها”، دون أن يستطيعوا ردعهم، لارتباطهم برجالات الدولة المتنفذين، سواء من خلال مهنتهم أو من خلال الرشى التي يدفعونها.
أحمد الشاب الذي قدم من “البوكمال” تحدث عن تجربته مع “مشايخ القمحانة” التي زارها برفقة واحد من أصدقائه، بعد أن ذاع صيتها، وذلك للتأثير على والدة “حبيبته” التي ترفض زواج صديقه من ابنتها يقول “الغرفة ذات الإضاءة الخافتة والروائح العطرية والأبخرة أدخلتني في عوالم أخرى، سهّلت عملية اقناع صديقي بكلام الشيخ الذي وعده بأن تأتيه والدة حبيبته صاغرة لتبارك زواجه، مقابل مبلغ كبير”، الأمر لم يتم “والفتاة تزوجت من رجل آخر” يكمل أحمد.
أما سامر من جبل الزاوية فقد قال “إن حال أخته قد ساءت بعد ذهابها إلى أحد المشايخ”، واضطراهم لـ “بيع واحدة من أراضيهم” لتغطية تكاليف الشيخ، لا يعرف سامر السبب في استمرارهم وقتها بالذهاب، ولكنه يعزو الأمر لحالة “اليأس” التي سيطرت على عائلته بعد دخول أخته بحالة نفسية سيئة لم تجدِ فيها زيارة الأطباء التي استمرت لأكثر من سنة، ناهيك عن “التأثير الاجتماعي” لأهالي القرية، والذين تحدثوا عن حالات “شفيت” على يد “مشايخ القمحانة”، ما زاد من الضغط النفسي، “عملنا الي علينا، والباقي على الله” يقول سامر الذي أخبرنا “أن عائلته كانت ستلام في حال عدم الذهاب، وسيحملها الناس المسؤولية”.
يستخدم “ممتهني السحر” أساليب مختلفة لتعزيز ثقة المرضى ومرافقيهم بأهليتهم وقدرتهم، يقول أبو محمد، ومنها الكتابة على نوع ورق معالج ببعض المواد الخاصة، فبمجرد وضعه بالماء تظهر كلمات لها معانٍ وإيحاءات يستخدمها المشايخ للدلالة على صحة كلامهم وزيادة التأثير على “فرائسهم”. كما يعتمدون على
الزيوت المغربية والأبخرة المختلفة، التي تؤثر على عقل الإنسان عند استنشاقها، إضافة لقدراتهم اللغوية العالية ومهارات التواصل والإقناع التي اكتسبوها بحكم الوراثة أو الممارسة الطويلة للمهنة لإقناع الشخص بكل ما يريدون والسيطرة عليه.
وعن المبالغ الضخمة التي يتقاضونها فهم يعتبرون أنها “شرعية” لأنهم كغيرهم من أصحاب المهن الأخرى يدفعون تكاليف باهظة قيمة المواد الازمة لمهنتهم، يقول أحد هؤلاء لواحد من مراجعيه بعد ان أرهقه بأقساط جلسات العلاج وامتعاض الأخير من حجم المبالغ المدفوعة: “وهل تظن أن تلك المبالغ هي أتعاب فقط إن المواد التي تلزم لعملنا غالية جداً ومستوردة من المغرب خصوصاً وتصل دفعاتنا لملايين الليرات قيمة تلك المواد”.
كانت أرباحهم باهظة ومبررة بالنسبة لهم لأن زوارهم كانوا من الطبقة المخملية والأغنياء، فلا ضير لديهم إن دفع هؤلاء مبالغ إضافية مقابل الخدمات التي يقدمها لتخليصهم من وساوسهم، وهم يرون في أنفسهم أطباء نفسيون والأمراض النفسية تصطاد المترفين من الناس، وهم بدورهم يصطادون هذا النوع تحديداً من الزبائن بعد أن يعدموا وسائل العلاج التقليدية.
باتت لدى كل شيخ منهم خبرة للتعامل مع زبائنهم بحكم الممارسة والتجربة، ونتيجة اللقاءات المنفردة مع الأصدقاء والضيوف المرافقين للمريض قبيل جلسات العلاج، حيث يحصلون على كل معلومة وجزئية يريدونها قبل الالتقاء بمريضهم، وإخباره بمعلومات يعتقد أنه علمها عنه عن طريق قدراته الخارقة في قراءة الشخصية والمستقبل، ليكمل سيطرته على المريض نفسياً وجسدياً.
بموت الشيخ أحمد والشيخ صطوف، لم يعد في القمحانة من يكتب الحجابات القرآنية دون مقابل أو ربما مقابل علبة راحة أو كيلو غراماً من الحلويات الرخيصة، ولم يبق من آثارهم سوى قبة تزين جدرانها الرايات الملونة المسماة بـ “الحضرة” وبعض السيوف والأدوات الحادة، وحلت مكانها قصور وفيلات حديثة يستوطنها السحرة الجدد اللاعبين على ثقافة مجتمعية ضحلة مستغلين عادات اجتماعية سلبية تعتبر المريض النفسي “مجنوناً”، ما جعل مهنة الطب النفسي غير رائجة ومتعبة لصاحبها، لتخلو الساحة للسحرة والمشايخ.
يضحك محمد السعيد وهو يخبرنا عن صعوبة الوصول اليوم إلى القمحانة التي تحولت إلى ثكنة عسكرية لقوات الأسد، في الوقت الذي مازال سحرتها يمارسون نشاطهم “على عينك يا تاجر”، دون حسيب أو رقيب.