يحتفظ أبو حسن من بلدة (معرتحرمة بريف إدلب الجنوبي) بـ “نول الخلايا الخشبي”، الذي أورثه إياه والده الذي ورثه بدوره عن جدّه، يمرّر يديه على ألواح “التوتياء” التي تغلف “النول القديم”، يتفقد خشبه، يشم رائحة “البساطة”، ويعاود استخدام “الخلايا” كحلّ يعيضه عن استخدام “وسائل حفظ المؤن الحديثة” التي “تفقد الأطعمة كثيراً مذاقها”، ناهيك عن غياب الكهرباء عن البلدة، والذي حوّل أجهزة “التبريد والفريزر” إلى قطع من الحديد “غير المفيدة”.
و”النول” مصطلح كان يطلقه أبناء المنطقة على “عدد من الخلايا” التي رافقت معظم بيوت “الغمس” القديمة، والخلايا “عيون” مصنوعة من “الطين” (أربعة أو خمسة عيون) مفتوحة من الأعلى، مزودة بفتحات سفلية، توضع في داخلها “المؤن” الشتوية من الحبوب والطحين والتين اليابس والزبيب، لحفظها من “الرطوبة والتسوس”، بحسب الجدة أم محمد، التي أضافت أنه وبمرور الزمن “صارت تصنع الخلايا من الخشب بدلاً من الطين، بحجمين كبير وصغير، وذلك لسهولة تحريكها وتغيير مكانها في المنزل، وبدأت الخلايا الطينية بالاندثار شيئاً فشيئاً”.
وعن كيفية صناعة الخلايا الطينية تقول الحاجة مريم المحمد (89 عاماً)، والتي كانت والدتها تمتهن بناء الخلايا والتنور وطلس البيوت بـ “الحوارة والكلس”، “نصنع عجينية طينية نقوم بمزجها بالتبن المكسر والماء ليزداد تماسكها، ونعجنها بالأرجل حتى تصبح جاهزة، ثم نبدأ بالبناء من الأسفل (كان يطلق على بداية بناء الخلية اسم البدوة)، بعد جفاف “البدوة” نبدأ بوضع الطين وتدعيمه بـ “الحصى” لتغدو الخلية قوية ولمنع تشققها بفعل الجفاف”، يتم البناء على مراحل، تقول الحاجة “فعلينا الانتظار لأيام كي يجف الدور الأول من البناء، ثم نكمله على مراحل حتى يصل إلى الارتفاع المناسب، وبعد الانتهاء نقوم بطلسه بـ “الكلس الأبيض” لإعطائه “رونقاً جميلاً”.
أما الخلايا الخشبية فقد كانت تصنع من قبل “نجارين”، غالباً ما كانوا يصنعونها بحسب قدرة “الزبون المالية”، سواء من ناحية الحجم أو الزخرفة والنقوش التي يرسمونها على الخلية، وبعد الانتهاء من صناعتها “يصفحونها” بألواح من “التوتياء” لمقاومة الصدأ، يقول أبو حسن.
وكانت الخلايا مصدر تفاخر بين أهالي القرى، ودليل على “السعة المالية” من جهة، ونظافة “سيدة المنزل” من جهة أخرى، إذ غالباً ما كان الأغنياء يحصلون على “أنوال خشبية مزينة بالأرابيسك”، أما الفقراء فيلجؤون إلى “الطين والحجارة” لبناء “نولهم”.
ارتبطت هذه الخلايا بذاكرة كثير من مسني القرى وحكاياتهم، فقد كانت مخبأ طفولتهم خلال ألعابهم، ومصدراً للعقاب في كل مرة يحاولون فيها العبث بـ “سدادات الفتحات القماشية”، يقول أبو هاشم “فضولي دفعني أكثر من مرة لأسحب تلك السدادات وألهو بحبات الحنطة والعدس المنسكب على الأرض، وعند رؤية والدتي لهذا المشهد، تستعجل إلى مكنسة القش”، تاركاً لنا أن نحزر “بقية القصة وشكل العقاب”.
غابت “الخلايا” عن البيوت الحديثة، واستبدلت بـ “الأكياس الحافظة والعلب البلورية أو البلاستيكية”، واحتلت “وسائل التبريد الجديدة” مكان “النول” في صدر المنازل والمطابخ، كما استبدلت النقوش الخشبية والزركشات بورد أو مجسمات لفواكه بلاستيكية، وذلك لسهولة استخدامها، والتنوع الكبير في المؤن من مختلف الأشكال والألوان والأذواق والأطعمة. لكنها تبقى ملاذاً لذاكرة الجدّات وحكاياتهم، وقدرتهم على إيجاد حلول بطرق وأكلاف بسيطة، نلجأ إليها كلما ضاقت بنا الحضارة وسبل العيش.