تحوّلت “عفارة الزيتون” وهي “التقاط الحبات المتبقية على الشجر أو في الأرض بعد الانتهاء من قطاف أصحاب الأرض لزيتونهم” من “مغامرة” يخوضها الأطفال، سابقاً، لشراء “الهريسة وبعض المأكولات”، إلى مهنة يعتمد عليها كثر من أطفال الشمال السوري، لتأمين “مونتهم من الزيت والزيتون”، وشراء بعض احتياجاتهم الأساسية، بل تعدّت الأطفال لتمتهنها بعض العائلات، نتيجة الفقر والحاجة، وشكّلت عبئاً جديداً على أصحاب الأراضي في المنطقة.
بوجوه “شاحبة” وبقايا ثياب رثة، يتوسطها “الحرّاجة” وهي (قطعة قماش على شكل كيس تربط على الخصر)، يتوزع الأطفال على “الأراضي الزراعية” مع ساعات الصباح الباكرة، في مختلف الظروف المناخية القاسية، لـ “تعفيرها” في سباق للحصول على “ما يعينهم” في ظل الظروف الاقتصادية القاسية التي يعيشونها، تاركين “مدارسهم” ومتجاهلين “الآثار الصحية” التي يتركها برد الشتاء وغبار الزيتون على أجسادهم الغضة.
تحاول “أم لؤي” ثني طفلها عن الذهاب، لكن معرفته بظروف عائلته “تدفعه لتحمل المسؤولية باكراً”، ليخرج مع أصدقائه يومياً، عائداً ببضع “كيلو غرامات” من الزيتون، يبيعها ويقدم ثمنها إلى أمه لتشتري ما يسد رمق أخوته، في حين اعتاد سامر الخروج كل يوم، وتفقد المبلغ الذي جمعه “ليشتري حذاء ومعطفاً جديداً”، للذهاب إلى المدرسة، بينما تخرج أم فادي مع أطفالها الأربعة لـ “العفارة” علّها تستطيع إطعامهم، بعد أن فقدت زوجتها، وعجزت عن تأمين عمل يقيها “ذل السؤال”.
وينقسم أصحاب الأراضي بين “متعاطف” مع أطفال “العفارة” ورافض لهذه الظاهرة، يقول المزارع أبو عبدو: “نحنا منبلش زيتون من هون، والولاد بيطشوا بالأراضي من هون، وكلن خطي الله يساعد، أحيانا بتكون معهن أهلن، وأحيانا لحالن”، بينما يعتبر فلاحون آخرون “إن انتشار هذه الظاهرة وتحولها إلى مهنة، تعزز في الأطفال سلوكاً خاطئاً، فكثر منهم لا يميزون بين الأراضي التي انتهى أصحابها من القطاف، وبين الأراضي التي لم تقطف بعد”، وهو ما عده الفلاحون “سرقة”، وأحياناً بعلم “أهلهم”، على حد قول أبو صبحي.
كما عدّ المزارع أبو صبحي العفارة ظاهرة تسيء إلى الأراضي الزراعية، فالأطفال يقومون أحياناً بـ “تكسير الأغصان”، والإساءة إلى الأشجار، دون وعي منهم، محملاً الأهالي مسؤولية ما يحدث، وهو ما أدى إلى إجبار الفلاحين على “قطاف زيتونهم” قبل نضوجه خوفاً من “السرقة” أو على الأقل إلى اضطراهم “لحراسة” هذه الأراضي ريثما يتم قطافها.
ويحمّل أبو صبحي، المسؤولية بالتوازي أيضاً، لأصحاب المحلات التي تشتري الزيتون من الأطفال، ويصفهم “بالاستغلال والجشع”، إذ يجدون في شراء “العفارة” صفقة رابحة، بعد أن يقدمون للأطفال “نصف الثمن” وأحياناً “ربعه”، فيشجعون من جهة على “السرقة”، ويظلمون “الأطفال” بالسعر من جهة ثانية.
يلجأ بعض ممتهني العفارة من الأطفال إلى اختيار “ظروف مناخية سيئة” لعملهم، إذ لا يخرج الأهالي للقطاف في الأجواء الماطرة أو البرد الشديد، وهو ما يسهّل على الأطفال “التعفير براحة”، على حد قول الطفل محمود، خوفاً من “ملاحقة أصحاب الأراضي لهم”، واضطراراهم للهرب، وهو ما أدى إلى “كسر ساعد” صديقه رامز، بعد اضطراراه للقفز من أعلى الشجرة.
الممرضة عفاف المصطفى قالت إن هناك ازدياد ملحوظ في كل عام في الأمراض التنفسية، التي يعاني منها ممتهنو العفارة، نتيجة للبرد وغبار الزيتون، كالسعال الجاف والمستمر والسعال الرطب، والحكة العينية، إضافة إلى الحساسية المفرطة لروائح الأشجار وغبار الزيتون والتهاب الأغشية المخاطية والتهاب الأنف التحسسي، كما يجعل هؤلاء الأطفال عرضة للإصابة بحمى القش، ناهيك عن الجروح والكسور، بسبب الأغصان أو الوقوع من على الأشجار.
من جهتها تشتكي المعلمة ميناس من غياب متكرر لعدد من الطلبة في الصفوف الدراسية، خلال موسم قطاف الزيتون، ما يؤثر على مستواهم الدراسي، وتأخرهم عن بقية زملائهم، ووقوع المعلم أمام صعوبة التوفيق بين “الالتزام بالمنهج الدراسي وفق خطة معينة، وتعويض النقص الذي سببه غياب الطلبة”.
المرشدة النفسية أم بانة حذرت من المشاكل النفسية التي ترافق عمل الأطفال في سن مبكرة، فأياً كانت المهنة، ستترك آثاراً سلبية على الطفل، أهمها القلق والتوتر التي تتسبب بهما “تحمل المسؤولية” وضغط العمل وصعوبته، إضافة إلى السلوك العدواني الذي يكتسبه الطفل خلال “عمله” وابتعاده عن “المدرسة”.
وفي اجتراح حلول لهذه المشكلة تقوم بعض المنظمات بتقديم المبادرات، سواء بالمساعدات المادية والمعنوية، مثل منظمة مرام وإحسان، بالإضافة لغراس واليونيسيف وغيرها، تقول مديرة فريق الدعم النفسي في مركز نقطة بداية فاطمة زيدان: “نحن كمنظمات عمل إنساني، عملنا على برامج حماية الطفل بأكثر من منطقة، وتضمن البرنامج تنفيذ حملات توعية حول عمالة الأطفال للأهالي والمعلمين تتحدث عن خطر انتشار هذه الظاهرة على الطفل والمجتمع، وقد لاقت هذه الجلسات تجاوباً من قبل أغلب الأهالي، وعاد عدد لابأس به من أماكن عملهم الى مدارسهم”. وذكرت زيدان أن مشاريعهم تتنوع ما بين تعليمية وترفيهية، إضافة للدعم النفسي.
أمام دكاكين الباعة، يتجمع الأطفال مساء، يفرغون “حرّاجاتهم”، لبيعها، يدسون نقودهم في جيوبهم، ويعاودن النفخ على أصابعهم “الباردة”، علّهم يحصلون على الدفء، بعد يوم قاس من العمل والبرد.