يتراجع الشعر “القهقرى”، ويغص عالم الرواية بـ “الأدعياء”، وتغيب “الموسيقا” عن الحضور، وما زال المسرح يبحث عن “مؤلف”، تلك اختصارات يُطلقها “أهل الثقافة” عن الواقع السوري في زمن “الثورة”، خاصة مع غياب “المنابر والمراكز الثقافية”، والاتجاه نحو البحث عن “تمويل” لمثل هذه الفعاليات، في الوقت الذي تعتبر فيه “المنظمات الداعمة”، “سلة الغذاء وعلبة الدواء، أجدى وأهم من اللغة والشعر والجدليات الفكرية”، بينما لا تعير الحكومات المتعاقبة والفصائل المسيطرة بأيديولوجياتها المختلفة بالاً للثقافة والفنون، سواء لاعتبارها “بطراً فكرياً في زمن جائع”، أو لمخالفتها “عقيدة بعض الاتجاهات الدينية”.
وإن كانت “الحرب” مصدراً “ثريّاً” لنتاجات ثقافية، وتحديات حضارية “لا بد من مواجهتها”، خاصة مع مساحة الحرية التي ولّدتها الثورة السورية، والتي نشطت في الدول التي هاجروا إليها، واندماجهم بثقافات جديدة، والوصول إلى منابر لتسليط الضوء على نتاجاتهم، عانى الداخل السوري من شحّ ثقافي، على كافة الأصعدة، وفي مختلف المجالات، خاصة بعد أن تعرضت معظم المراكز الثقافية للدمار والسرقة، لتضيع آلاف الكتب، وعشرات الأماكن التي كان من الممكن أن تشكل “نواة” حقيقية لبدء مشروع ثقافي ونهضوي لترويج أفكار الثورة وقيمها الحضارية، ما سيشكل، إن تمّ، ضغطاً هائلاً على القوى المسيطرة على الأرض، وأخذ زمام المبادرة منها، لطرح أفكار جديدة، تتفق مع رؤية واضحة ودقيقة للتعبير عن الأفكار والهموم والمشاكل التي يعانيها السوريون.
يقول بسام العقدي (مدير المركز الثقافي في مدينة كفرنبل، سابقاً) “إن نشاط المركز الثقافي، والذي كان يضم مسرحاً يتسع لأكثر من 400 متفرجاً، ومكتبة تحتوي في رفوفها على أكثر من 8000 عنوان، والذي تأسس في عام 2000 واستكمل بناؤه على مراحل حتى عام 2011، استقبل خلالها أعلاماً من الأدباء والكتاب والمفكرين السوريين، لم يشفع له، ما جعله لقمة سائغة لبض ضعاف النفوس الذين سرقوه وسلبوا محتوياته من الكتب والمقاعد والمعدات”.
المركز الذي استقبل عشرات الكتاب والشعراء خلال مسيرته، والذي شكل ملجأ لمئات الأدباء والقراء والمهتمين بالشأن الثقافي خلال مسيرته، لم يحظى بفرصة مناسبة لإعادة تأهيله، سواء من المجلس المحلي أو الحكومات المتعاقبة، أو من المنظمات الداعمة، وأرجع العقدي السبب “إلى الكلفة العالية التي يحتاجها، بعد أن تعرض للقصف مراراً، وسلبت محتوياته وكتبه”.
تحوّل المركز الثقافي في المدينة إلى “مشفى جراحي” منذ منتصف عام 2013، ومع ارتفاع وتيرة القصف واستهداف المراكز الطبية من قبل قوات الأسد، تهدّم قسم كبير من بنائه وتصدّع ما تبقى من جدران، آيلة للسقوط، في أي لحظة، بعد ثلاث غارات مباشرة استهدفته بشكل مباشر.
يتذكر الشاعر نور الدين الاسماعيل (من مدينة كفرنبل، وواحد من رواد مركزها الثقافي)، الأيام التي عاشها المركز في السنوات السابقة للثورة، والأمسيات المميزة والنشاطات الفكرية والفنية والثقافية التي سكنت أرجاءه، معتبراً أن “للمركز الثقافي أكبر الأثر في حياته الشعرية”، فقد شهد “أولى أمسياته في العام 2001، والتي استمرت لأماسي كثيرة وحتى عام 2011″، آملاً بـ “إنشاء دار للثقافة أو مركز جديد، لإعادة الروح إلى مدينته، ومفكريها وشعرائها”.
أبو خالد (واحد من رواد المركز الثقافي سابقاً) يرى أن الأولوية اليوم “ليست للمراكز الثقافية والمشاريع الأدبية”، بل يضعها في مرتبة لاحقة تلي “تأمين المشافي والمراكز الطبية والمشاريع الخدمية”، وهو ما وافقه عليه محمود (من أهالي المنطقة)، ولكن دون إهمال “دور الثقافة” في ظل “الغزو الفكري الذي يتعرض له الشباب عبر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وما نتج عنه من أفكار مشوهة، وقراءات خاطئة، وغياب للدور التربوي والفكري والتوجيهي من خلال التماس المباشر مع الأدباء والمثقفين والكتب والمراجع”.
ليس المركز الثقافي في كفرنبل إلّا واحداً من 17 مركزاً كانت موزعة على مدن وبلدات محافظة إدلب، خرجت بغالبيتها عن الخدمة جراء الحرب، وتعرضت محتوياتها للسرقة، باستثناء بعض المحاولات لأشخاص عملوا بشكل تطوعي لحماية هذه المراكز ومحتوياتها من الضياع، كـ “مركز معرة النعمان الثقافي”، الذي حافظ على كتبه من خلال قيام بعض الأشخاص من أهالي المدينة، بنقل الكتب إلى مناطق آمنة، يقول عمر الصامد (من مدينة معرة النعمان): “شكلنا مجموعة من الشبان بهدف حماية مقتنيات المكتبة وتأمينها، ونجحنا بالحفاظ على 14 ألف مجلد كانت مهددة بالتلف أو السرقة، بينما ضاع من المكتبة قرابة 1800 مجلد، وقمنا بإعادة افتتاح المكتبة من جديد في سنة 2014، واليوم يقوم المركز بعمله بشكل جيد ويرتاده الكثير من القراء وطلاب الجامعات”.
بدورها مدّت منظمة “بيتنا سوريا” يد العون للمنظمات الشبابية التي قدمت مشاريع ثقافية في مطلع 2015، وتم تمويل المشروع الثقافي بمعرة النعمان والمشروع الثقافي بمدينة بنش، بمبالغ ماليه تهدف لشراء كتب وتنظيم عمل المراكز وإقامة الورشات الثقافية، بحسب عبد الرزاق عواد “مدير فريق بيتنا سوريا في الداخل” والذي يرى أن تلك المشاريع أثمرت بشكل جيد، لكن ظروف الحرب كانت تشكل عائقاً كبيراً أمام عملها، فقد تعرض المركز الثقافي في بنش لغارات جوية من قبل الطيران الروسي في العام الماضي 2017 مما أدى لضياع جزء كبير من مقتنياته.
مع انتشار الجامعات في إدلب وعودة الحياة التعليمية للمحافظة يتمنى الكثير من الطلبة عودة المراكز الثقافية التي تساعدهم في إنجاز أبحاثهم بالإضافة للمتعة التي يعيشها القارئ أثناء تقليبه لصفحات الكتب الصفراء.