انتشرت ظاهرة “بيع الأدوات المستعملة” في سوريا، خلال السنوات الأخيرة، وشكّلت في السنتين الأخيرتين “المصدر الأهم” لتلبية احتياجات الأهالي في الشمال السوري، وفرصة عمل ومصدر دخل لآلاف العائلات السورية، سواء في الداخل السوري أو الدول المجاورة.
مئات المحال التجارية للأدوات المستعملة غزت أسواق المدن الرئيسية في الشمال السوري، وتعدتها إلى القرى والبلدات الصغيرة، ليبدو المشهد أشبه “بمحل كل شيء”، “كل شيء قابل للبيع، والسوق متعطش للبضاعة” يقول أحمد صاحب أحد محلات المستعمل في إدلب، ليكمل “لا تحتاج لشراء أي شيء من خارج السوق، من الإبرة وحتى غرفة النوم، مروراً بالأدوات الكهربائية ووسائل التدفئة والسجاد والاسفنج والقائمة تطول”.
ويرى أحمد (50 عاماً) إن هذه “المصلحة” ازدهرت خلال السنتين الماضيتين، “سابقاً قبل الثورة كان عدد المحلات في إدلب لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة” أما اليوم فيوجد “مئات المحلات، وفي كل يوم نشهد افتتاح محل جديد”. يضحك أحمد وهو يخبرنا أن مثل تلك الأسواق في المدن الكبيرة كحلب ودمشق كان يطلق عليها “سوق الحرامية”، لا يعرف سبب التسمية ولكنه يفندها بـ “أن المشتري كان يدخل إلى السوق وهو خائف أن يراه أحد، كالسارق، ربما كان شراء الأدوات المستعملة أو البالة مسبّة في ذلك الزمن”.
ويعزو أحمد السبب في انتشار هذه “المصلحة” إلى ضعف الحالة المادية لأهالي المنطقة، وزيادة عدد السكان الذين تضاعفوا في السنة الأخيرة، ناهيك عن غلاء البضائع الجديدة وضعف جودتها، مقارنة بالقديمة، “تلك الأسباب الظاهرية، أما الداخلية فتعود أيضاً إلى اختلاف النسيج الاجتماعي، وتقبل المجتمع بكل طبقاته لشراء المواد المستعملة، فلا فرق بين غني وفقير الآن، الجميع يصبون هنا” في إشارة منه لسوق المستعمل.
وقسّم أحمد البضائع المستعملة الموجودة في الداخل السوري إلى ثلاثة أنواع: “قديمة” يُعمل على إصلاحها وترتيبها من جديد، ويتم شراؤها وبيعها بأسعار تناسب الطبقة الفقيرة، وأخرى “أشبه بالجديدة”، يبيعها أصحابها بداعي السفر أو الهجرة أو النزوح، ومنها ما يحتوي على بضائع “ماركة عالمية” لم تعد متوفرة في الأسواق، ويتم شراؤها وبيعها بنصف السعر، وأحياناً يتجاوز سعر بعض الأدوات “الماركات” قرينتها من الأدوات “الجديدة، ليست من نفس الماركة”.
وأخيراً البضائع التي تأتي عبر الحدود من تركيا، بعد أن شكل الداخل السوري سوقاً لتصريف هذه المنتجات، التي تباع بأسعار منافسة، ويقوم بشرائها تجار سوريون وتصديرها إلى الداخل، وهو ما يفسر انتشار “البضائع التركية” بكثرة في الأسواق.
أبو عبدو “تاجر أدوات مستعملة” في إدلب قال “إن الاتفاق غالباً ما يكون بعد معاينة البضائع في المنازل، كثر من الأهالي يبيعون عفش بيوتهم كاملاً، بغرض السفر إلى دول مجاورة، أو الانتقال إلى مكان آخر، لتوفير أجور النقل، ويتم بالمقابل شراء بديل لها في المناطق الجديدة التي سكنوها، أيضاً من محلات المستعمل”، فلم يعد هناك، على حد قوله، ارتباط شخصي بأثاث المنزل كما كان سابقاً، “الذكريات التي ارتبطت بشراء كل قطعة انتهت في رحلات النزوح والتهجير والنقل، ناهيك عن تلف كثير منها خلال عمليات النقل”، وهو ما قاله أبو خالد (نازح من طيبة الإمام بحماه) الذي باع جزء من بيته الذي “نزح برفقته” في رحلة “محفوفة بالموت” كما وصفها، “تركت بعض الأشياء وبعت الفائض عن حاجتي، فهناك أغراض كثيرة في البيت باتت زيادة عن الحاجة، خاصة مع عدم الاستقرار الذي نعيشه في البيوت المستأجرة”.
طنين “الواتس آب” لا يتوقف بيد “أبو علي” صاحب أحد محلات المستعمل، رسائل كثيرة وصور يتفحصها ويرد عليها لبضائع معروضة للبيع، “كل عملنا بات مرتبطاً بهذا الجهاز” يقول الرجل، فصفحات بيع المستعمل والتي تخص كل منطقة على حدة، أو تلك التي تجمع بين المناطق باتت بالعشرات، وصار التفاوض مع البائع يتم عبر “التعليقات”، التجار يعرضون بضائعهم أيضاً في الصفحات ذاتها، وهو ما زاد من “عمليات البيع بشكل كبير”، يقول أبو علي الذي رأى في هذه الطريقة وصولاً أكبر لما يعرضه، “صار بالإمكان لأشخاص يبعدون عشرات الكيلو مترات عن محلّي التسوق الكترونياً لبضائعي، كذلك أصحاب المحلات الأخرى وعمليات التبادل التي تتم بينهم في ما يسمى تجارة الجملة”.
كذلك فتحت هذه الميزات الطريق نحو استيراد بضائع من الدول المجاورة، فشراء البضائع من تركيا كله يتم عبر هذه الطريقة، محلات سورية منتشرة تتلقف عبر “صفحات الفيس بوك والواتس آب وميزة الكالكو، ما يتم عرضه للبيع، سواء من البيوت التركية أو السورية، يباع قسم منها في تركيا، ويصدر الجزء الآخر منها إلى الداخل السوري” يقول غياث (صاحب محل مستعمل في تركيا) والذي أضاف “فرق العملة ساعد كثيراً في الآونة الأخيرة على انتشار هذه التجارة، نشتري بالليرة التركية التي تراجع ثمنها ونبيعها للداخل بالليرة السورية، أفضل غرف النوم، على سبيل المثال، لا يتجاوز سعرها 100 ألف ليرة سورية ما يعادل 200 دولار، وهو مبلغ بسيط مقارنة بأسعار الغرف الجديدة التي تتجاوز كلفتها، لا سعر مبيعها، 400 دولار”، إضافة إلى القطع الكهربائية التي شكلت سوقاً كبيراً للتصدير إلى سوريا “هنا في تركيا لا يوجد محلات تصليح للأدوات الكهربائية، إلا من خلال الكفالة، وهو ما يجبر الكثيرين على بيع أدواتهم بعد انتهاء كفالتها بأسعار زهيدة”.
تتفاوت أسعار البضائع بحسب جودتها ونوعيتها ودرجة الإقبال عليها، إلّا أنها شكلت حلّاً “معقولاً” لغلاء الأسعار، بحسب أبو عبدو، الذي أضاف إن الإقبال يزيد يوماً بعد يوم على شرائها، وذلك لثقة الناس بـ “مصدر هذه البضائع”، بعد أن كانت تخاف سابقاً من شراء قطع تخشى أنها “مسروقة” من مناطق القصف والقرى التي تشهد عمليات عسكرية بعد نزوح أهلها، أما اليوم ومع استقرار المنطقة “بشكل جزئي”، لم تعد هذه “الفرضية موجودة”.
شكلت هذه المحلات مصدر دخل لآلاف العائلات، من أصحاب المحلات وسيارات النقل والحمولة، يقول “أبو بكري” سائق سيارة نقل، “أحظي يومياً بنقلة أو نقلتين بحسب السوق، وأتقاضى عليها بحسب المسافة ما يشكل دخلاً جيداً لي ولعائلتي”، كما يعمل معي “شابان” لا تتجاوز أعمارهما 20 سنة، لتحميل وإفراغ البضائع، مقدّراً أعداد السيارات بما يزيد عن 500 سيارة، على حد قوله. كما قدمت هذه التجارة فرص عمل لمحلات النجارة “التي كادت تقفل أبوابها لعزوف الأهالي عن شراء الأثاث الجديد، نظراً لارتفاع ثمنه”، وذلك بتعاملها مع محلات المستعمل لإصلاح المواد المستعملة وترميمها، إضافة للفكّ والتركيب، وكذلك الأمر لـ “ورشات تصليح الأدوات الكهربائية”، وبائعي “قطع التبديل” و “المنجدين”، يقول أبو سائر إن “بيع الجلاتين لتغليف الأثاث القديم يشكل البضاعة الأهم الرائجة في محله”، وهو ما اضطره لـ “شراء كميات كبيرة من تركيا لتغطية احتياجات السوق”.