“حِنّاكي الأحمر وأصابيعك طوال/ قولي لابن عمك الليلة وين ينام/ ووقت شاف حسنك يا جْويدة، العقل منو طار”، ألحّت تلك “الهنهونة” كما يطلق عليها أهالي ريف إدلب، على رأس الحجة فطمه وهي تحضر زفاف حفيدتها، كانت تلك ذاكرتها عن يوم زفافها من ابن عمها، حين كانت في 14 من عمرها. حاولت أن تطلق صوتها بالغناء لحفيدتها، إلّا أن غصة ملأت “حلقها”، كما قالت، لتنقل بصرها في وجوه الحاضرين، علّها تجد أثراً لحفيدها المعتقل يمسك بيد شقيقته المغطاة بالأبيض، يطبع قبلة على جبينها ويسلمها لعريسها، العريس الذي فقد أخاه شهيداً منذ وقت مضى، والذي ظهر وحيداً هذه المرة، بلا كتف يستند عليه.
زفة عروس تخلو من الفرح، وتمتلئ بالصمت والدموع، هو كل ما خلفته آثار الحرب على نفوس أهالي المنطقة، بعد أن كانت تحمل ببساطتها الريفية وتقاليدها المتوارثة كثيراً من ساعات البهجة التي تستمر لأيام، “كان الزمن غير الزمن، وكان للفرح أهلو” تقول الحجة فطمه التي تروي لفوكس حلب طقوس الأعراس في قريتها كفر سجنه بريف إدلب، سابقاً، ومنذ أكثر من أربعين سنة مضت، تُتبع طقوس معينة في الأفراح، فأهل العريس يجتمعون في منزل العروس قبل “الزفة” بيوم، ثم يربطون قدميها ويديها، ليصبغوهن بـ “الحنة”، والتي هي عبارة عن نبتة مطحونة تخلط بالماء وتعطي اللون الأحمر. بعد ذلك تمشط النساء شعر العروس بغية قص القسم الأمامي الذي يغطي الوجه، ليصبح على شكل “غُرّة” جميلة، بحيث تكون جبهتها مناسبة للتزيين بسلسلة من ليرات الذهب، إلا أن العروس تتمنع عن ذلك وتطالبهم بـ “الفكاك”، وهو “مبلغ مالي تحدده العروس”، ثم يُحنّى شعر العروس، وسط جو من الزغاريد والأغاني الشعبية التي يُطلق عليها “العتابات والعديويات”.
عصر اليوم التالي يحين موعد العرس، فترتدي العروس ثوباً فضفاضاً مطرزاً بالخيوط الحمراء والذهبية، ثم تقوم النساء بربط جبهتها بعصابة من القماش إثر تغطية شعرها بشكل كامل، فيضعون الذهب حول يديها وعلى جبينها، وتعقد حلقة دبكة مشتركة من الرجال والنساء.
تقول فطمة: “ما بنسا هداك اليوم لما أجو الزفافي ياخدوني، كان قلبي عم يضرب ضرب، وحماتي صارت تعدّ: قومي طلعي ع عقيلي/ يا نايفة/ والخيل كلها والأمارة واقفي/ قومي طلعي يا عكيلة/ يا زيني/قومي طلعي يا أصيلة الجدّيني/ حلفت ما تطلع ولا هي طالعة/ ليجي العريس وربعو تنيني”، وقتها طلبت مصاري لحتى أرضى أطلع، فحطوا بإيدي خمس ورقات –ليرات-“.
قبل الخروج تُغطى العروس برداء يسمى “المزوية”، ثم يأتي أبوها أو أحد إخوتها، فيأخذ بيدها ثم يخرجها من بيت الأهل، ليسلم يدها بدوره لأخوات العريس، فتنهمر دموع جميع الحاضرين تأثرا بهذه اللحظة. إذا كان العريس من نفس المنطقة يمشون إلى منزله سيراً على الأقدام، أما إذا كان من قرية بعيدة يركبون الجمال، ثم بعد ذلك استخدمت “البوسطات الصفراء”، وأخيراً السيارات، وتبقى “الزفافة” تغني طوال الطريق حتى تصل منزل العريس، تكمل فطمة: “لما غطوني بالمزوية، الكل بكي، وأنا انحرق قلبي، قديش كانت صعبة لحظات هالفراق، وأنا وعم أمشي مع النسوان، صاروا يغنوا : سيري يا سميري/ و سيري و يا عقد النية/ ما احلا الزلم بالمجلس/ ما احلا الدلّة المركية/ سيري يا عروس يا بنت الكرم الخيري/ حلفت ما تسير إلا بشباحة/ وجاريتين ع الكتف اليميني/.
وبعد ما وصلت ع بيت عريسي قالولوا: سرا ظعن خلاني/ وبطلعة الميزاني/ ويا عريس ما قشيت دراك/ ولا مديتها للغاوياتي/ مديتها لست العرايس تمشي والكفوف محناياتي”.
ومع حلول الليل تنتهي الحفلة بإدخال العروسين غرفتهما، لكن قبل ذلك تمسك العروس قطعة من العجين، وتلصقها بباب الغرفة، إن علقت فيكون ذلك فأل خير، كما يعتقدون، وإن سقطت فيقال عن العروس: ما “بتكمل عندو”، أو تعمد العروس إلى كسر إناء زجاجي، باعتقاد أن ذلك كسر للشر، تكمل فطمة: ” بعد ما التزقت عجينتي بالباب، صاروا يغنوا الزلام لعريسي: “نحنا ربع الزغابي ترباية الأمير دياب/ نحنا ربع الزغبي من ضرب الموزر مامنهاب/ لمين هالخنجر المنقوش الداوي/ خنجرك يالعريس ياسبع يا غاوي”.
بعد ليلة الزفاف يأتي الأهل والأقارب ليهنئوا العروسين، ويقدمون الهدايا أو المال لهما، ويحضرون معهم 7 أرغفة من الخبر ويضعونها في قطعة من القماش، وفوقها المال المراد إهدائه لهما، فإن كان يوجد في منزل المهنئين شاب أعزب، تعيد العروس رغيفاً من الخبز، ظناً منهم أنه فأل يفتح نصيبه بالزواج، وأحياناً يوضع في الصرة صحن بيض، أو حلاوة بدلاً من الخبز أو حتى علب “راحة”.
كل تلك التقاليد أصبحت ماضياً في قرية كفرسجنة، إذ تلبس الفتاة اليوم فستاناً أبيض يوم الزفاف، وتلف شعرها وتلمعه، إلى جانب وضع مساحيق التجميل، كذلك أخذت الأغاني والموسيقا الحديثة مكان العتابات، ولم يعد هناك وجود للحنة بظهور المكياج أو حتى لليرات الذهب، وقلما ما تغنى العتابات والأغاني الشعبية القديمة، وإن أطلقت، فمن لسان خمسيني/ة أو ستيني/ة، وتزف العروس بسيارة مغلقة مزينة بالورود لمنزل العريس، وتقام لها حفلة، لكن حفلة الرجال منفصلة عن النساء، وتتنوع الهدايا ما بين مال و ملابس أو تجهيزات لمنزل العروسين، وذلك حسب الحالة المادية للمهنئين.
وتتبع بعض الفتيات حركات معينة بالزفاف، كأن تدوس العروس على قدم صديقتها العازبة أو تشرب من كأس ماء ثم تعطيها إياه، أو تقرصها، باعتباره فأل يفتح نصيبها بالزواج. أما عادة العجينة والكأس فقليلاً ما باتت تستخدم.
ويعود سبب اختفاء تلك المظاهر عن أيامنا هذه، لما شهدته البلاد عامة بما فيها كفرسجنة من مواكبة للتطور في كافة الميادين وعلى مختلف الأصعدة، مما غير أنماط الحياة، بما فيها المأكل والمشرب والملبس وغيره، بالإضافة لتغير الأذواق والعادات ما بين كل جيل وسابقه.
يقول أبو محمد الرجل الستيني الذي شهد كلا النوعين من التقاليد: “كل شي بحياتنا تغير، ضلت عالعراس”، بينما تعلق الحجة عيشة بصوت هادئ: “إيه هديك إيام، وهي أيام”، وتضيف حسناء التي اقترب عرسها: “هلق معقول أترك الفستان الأبيض واللفة، وألبس خلوقة مطرزة، كناية عن لبس لعروس في السابق!!، إلا أن سناء الفتاة العشرينية قالت: “نيالن عرسن كان أحلا من اللي عنا”.
وتبقى تلك التقاليد ذكرى جميلة في تاريخ كفرسجنة الواقعة في أخر ريف إدلب الجنوبي، علق عليها أبو فارس بـ بيت من العتابا: “تذكر يا قلب وارجع لساعات/
وشفنا من صنوف الفرح ساعات/ ويريت الراح يرجعلي لساعات/ لارجع عيش ليالي السعد وأيام الهنية”.