تُوصد الأمهات السوريات في مدينة حماه أبواب بيوتهن في وجه الفرح، ذلك أن هناك غصة خلّفها البُعد واستحالة العيش في مكان واحد يجمعهن بأبنائهن الذين غادروا المكان للالتحاق بركب الثورة، أوخوفاً من الاعتقالات أو الخدمة في جيش النظام، إضافة إلى تقطيع الأوصال بإغلاق المعابر، ومنعهن من زيارة أولادهن، والإتاوات المفروضة من قبل الحواجز المنتشرة للشبيحة، فبتن يرين أحفادهن على وسائل التواصل الاجتماعي، ويكتفين بالحنين والبكاء.
وليس حال الفتيات في المجتمع الحموي بأفضل حالاً من الأمهات، فمع خلو المدينة من معظم شبابها، تقدر نسبة المهجرين والنازحين من الشباب بـ 60% توجهوا إلى المناطق المحررة أو إلى دول أخرى (أوروبا –تركيا –الدول العربية المجاورة)، اضمحل حلمهن بالزواج، لتغدو الفتاة أمام خيارين (أحلاهما مر)، فإما الالتحاق بواحد من الشبان بعد زواجها لتترك مدينتها وحياتها فيها، مع كل المخاطر التي ستواجهها في رحلة التهريب للوصول، أو البقاء في المدينة دون حلم ببناء أسرة.
“سبع سنوات مرت، منذ غادرت حماه، لم أستطع رؤية والدتي فيها سوى مرات قليلة كان آخرها عام 2014” يقول عبد (واحد من أهالي حماه القاطنين في إدلب) والذي أجبرته الظروف على ترك دراسته الجامعية في المدينة خوفاً من الاعتقال، دون أن يدرك، ولو خيالاً، أن الرحلة ستطول كل تلك السنوات.
“في الزيارة الأخيرة لوالدتي، أرادت أن تزوجني، وهو بالفعل ما تمّ باختيارها واحدة من نساء حينا في حماه” يروي عبد لفوكس حلب، لتبدأ معاناة من نوع آخر في “الكيفية التي ستصل بها العروس إلى الشمال السوري المحرر، مروراً بعشرات الحواجز، ومع إغلاق معبر مورك الذي تزامن مع زواجه”
“استمرت الرحلة ما يقارب 11 ساعة عبر طرق التهريب بين الحواجز، تعرضت فيها لمضايقات وأسئلة كثيرة حول وجهتي، ودفعت مبالغ مالية كبيرة كرشى يدفعها المهربون لعناصر الشبيحة” تقول سارة زوجة عبد، “لكني وصلت في النهاية، وشعرت إني غادرتي مدينتي إلى الأبد”.
الأمور زادت صعوبة في الآونة الأخيرة بعد إغلاق طريق “قلعة المضيق” في منتصف شهر آب الماضي، دون أسباب، ما اضطر أغلب السائقين للانتقال إلى طريق
أثريا –خناصر، والذي يمر من حلب نحو منطقة منبج التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، لتصل عبر “الترفيق” إلى مدينة جرابلس، ومنها سيكون عليك المرور بإعزاز وعفرين وريف حلب الغربي للوصول إلى إدلب، رحلة تستغرق في أفضل الأحوال “22 ساعة، وبكلفة تزيد عن 50 ألف ليرة =110 دولار”.
ليس طول المدة ما يشغل بال النساء الحمويات، بل رعونة وإساءات الحواجز المنتشرة، والمبالغ المالية التي تضاف على “الأجرة”، إضافة إلى الخوف من الاعتقالات، وهو ما أخبرنا به “أبو أيمن سائق حافلة على خط حماه إدلب”، ففي حزيران الفائت “اعتقل حاجز في مدخل حماه واحدة من النساء اللواتي كن برفقتي في الحافلة، بعد سؤالها عن مكان زوجها، وعند إخبارها لهم بوجوده في إدلب، اعتقلها عناصر الحاجز، وطلبوا مني متابعة السير”، ليردف “قال لي العنصر: ستنتظر معنا قدوم زوجها إلينا”.
غابت أخبار “المرأة” منذ ذلك الوقت، وحتى اليوم، دون أن يعرف أهلها مصيرها أو الجهة التي تم اقتيادها لها، بحسب السائق.
التهمة كانت جاهزة للنساء المسافرات وحدهن، وهي انتماء “أزواجهن” للفصائل “الإرهابية”، والانتهاكات بحقهن وُثقت من قبل هيئات حقوقية وإنسانية دولية وسورية، فبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان هناك نحو “6580 حالة اعتقال تعسفي للنساء منذ 2011، بينهن لا يقل عن 225 حالة لنساء قاصرات دون سن الثامنة عشر”، يتعرضن للإهانة والذل والضرب والتعذيب، وهو ما أكدته المعتقلة “أم عمر-28عاماً” التي أُفرج عنها بعملية تبادل جرت في السابع عشر من تموز الماضي، بعد أن قضت “أربعة أشهر” في فرع “فلسطين” بدمشق، إثر اعتقالها على حاجز يطلق عليه “حاجز تل برهان” (جنوب قلعة المضيق في ريف حماه الغربي”، وتحدثت أم عمر لفوكس حلب “عن طرق التعذيب والإذلال التي مورست بحقها خلال اعتقالها، وكمية الحقد والكراهية التي تكنها عناصر النظام لأهالي حماه”
وظهرت في السنتين الأخيرتين، حالات اندماج، بين الشباب الحموي وأبناء المناطق المستضيفة، وشهدت المنطقة حالات كثيرة للزواج من هذه المناطق، يقول مصطفى (شاب من حماه تزوج من مدينة اعزاز بريف حلب) “بداية انتظرت أن تتحرر حماه، ومع طول المدة وخوفي من الزواج بفتاة ستخوض كل الصعوبات والطرق المحفوفة بالشبيحة للوصول إلى إدلب، قررت الزواج من فتاة في المدينة التي أسكن فيها”، واصفاً “حياته بالسعيدة، بالرغم من بعض الاختلافات في العادات والطعام واللهجة”، وهو ما تحاول “فاطمة زوجة مصطفى” أن تكسره بتعلم بعض “الكلمات باللهجة الحموية، وكيفية صنع الطعام الحموي”، لإدخال “السعادة والفرح إلى قلب زوجها، الذي يسعد كل ما نطقت بكلمة حموية أمامه”، وكأنه يستعيد “ذاكرته”، وهو ما دفع مصطفى لتسميته طفلته بـ “فداء” نسبة إلى مدينته التي يطلق عليها “أم الفداء”.
يغص مصطفى كلما تذكر زواجه بعيداً عن أهله، وعدم قدرتهم على مشاركته لفرحه بطفلته التي تكبر أمامه، وأهله يراقبوها عبر “الواتس آب”، على حد قوله.
أما خلدون فقد آثر البقاء “قيد العزوبية” بعد أن تزوج “من بارودته”، على حد قوله، آملاً بالعودة إلى “مدينته وأهله: ليقيم عرسه هناك، فهو لا يريد للطرقات أن تمنع أطفاله من حقهم في العيش ضمن عائلة.
بكثير من الحزن يستذكر خلدون “زواج ربيعة” الذي تناقلته وسائل الإعلام، آنذاك، بزواج “منجد من مجدل شمس في الجولان المحتل” من “ميادة” بعد أن تعارفا خلال سنوات الدراسة في دمشق، وقتها زفت ميادة لتدخل الشريط المحتل، ولتغدو الطريقة الوحيدة لتواصلها بأهلها عبر “مكبرات الصوت”.