يجرّ أسعد “مهجر من الغوطة الشرقية” عربة الخضار خاصته في كل يوم، بعد أن يقوم بمسح وتصفيف “الفواكه” بطريقة جمالية، ليبيعها في شوارع إدلب، ويحقق إقبالاً من المارّة، الذين اعتادوا “سماع عباراته بلهجته الشامية المحببة على الأصناف التي يحملها”، فيبادروه بالابتسامة والشراء، وهذا ما حقق له كفافاً في العيش، ليعيل أسرته المكونة من خمسة أطفال وزوجته، خرجوا بـ “ثيابهم” في رحلة التهجير القسري التي فرضتها المصالحة مع قوات الأسد منذ أشهر.
لم يركن أسعد لحالة اليأس الذي انتابته بداية قدومه إلى إدلب وسكنه في واحد من مخيماتها، فتمثل مقولة لقصة دينية لا يذكر صاحبها، وفحواها “دلوني على السوق”، فالعمل لا يحتاج إلى “رأس مال كبير”، يحتاج فقط إلى “الرغبة والإرادة”، على حد قوله.
لا يوجد في محافظة إدلب مشاريع صناعية كبرى، ولا تتوفر فيها حتى “قبل الثورة” معامل ضخمة، وفرص عمل حكومية أو مؤسساتية، بل اعتمد معظم شبابها على الهجرة الداخلية نحو المحافظات الكبرى الصناعية كـ “حلب ودمشق وحمص”، أو العمل في الزراعة وبعض “المصالح” التي أجادوها خلال سفرهم إلى لبنان، التي شكلت محطة رئيسية في حياة شباب هذه المحافظة بأجيالها المتعاقبة.
ومع الازدياد الهائل في سكان المحافظة (بلغ عدد سكان إدلب بحسب آخر إحصائية لمنسقو الاستجابة شمال سوريا 3695000 بين سكان محليين ونازحين ومهجرين)، بات البحث عن عمل فيها كالبحث “عن إبرة في كوم قش” يقول أسعد، وهذا ما دعا كثير من العائلات لاجتراح حلول تساعدهم على البقاء، في ظل غياب حكومي وضعف في الاستجابة من قبل المنظمات الإنسانية، وهجرة أصحاب رؤوس الأموال، ناهيك عن الوضع الأمني القلق والبيئة غير الصالحة لإنشاء مشاريع كبرى في المحافظة.
وشكّلت المشاريع “متناهية الصغر” العمود الفقري لحياة آلاف العائلات في إدلب، وهي بتعريفها “مشاريع خاصة يقوم بها فرد –صاحب المشروع- أو مجموعة تقل عن خمسة أشخاص، لصناعة منتج وتسويقه”، وغالباً ما تكون هذه المشاريع مرتبطة بإنتاج الحاجات اليومية وتعتمد على السوق الداخلي في التصريف كـ “ورش الخياطة الصغيرة والأحذية والأعمال اليدوية – أعمال البناء، الحدادة، النجارة…- والصناعات الغذائية –حلويات، مونة، مطاعم شعبية- إضافة إلى محلات السمانة والحلاقة وصالونات التجميل للنساء..”.
خلقت هذه المشاريع فرص عمل للوافدين إلى المحافظة وأبنائها، وسرّعت من عملية الاندماج والتمازج الاجتماعي فيها، ليخلص بعضهم إلى القول “هناك حركة جديدة في المدينة، وصرت ترى تنوعاً على مستوى اللباس والطعم والصنعة، حمله الساكنون الجدد إلى قراها وبلداتها بعد أن نقلوا خبراتهم وأعمالهم إليها”.
أبو الخير(30 عاماً من داريا)، حطّ به المقام في بلدة الغدفة قرب معرة النعمان بعد تهجيره في عام 2016 وتنقله بين مناطق إدلب، يقول “قررت أنو لازم تستمر الحياة وارجع لشغلي اللي تركتو من سبع سنين”، يعمل أبو الخير في صناعة الحلويات لكن بعد انطلاق الثورة توقفت أعماله بشكل كامل، حين استقر أبو الخير قرر افتتاح ورشة لصناعة الحلويات مع اثنين من رفاقه من داريا، “قررت اشتغل بالحلو الشامي لأن هي مصلحتي اللي اشتقتلها وابتعدت عنها من أول الثورة ولأن ما شفت محلات مختصة بالحلو الشامي هون”.
أسس أبو الخير مع رفاقه ورشة صغيرة لصناعة الحلويات وبمساعدة وتشجيع من أهالي البلدة. ومع تقدم الأيام باتت تشهد ورشة أبو الخير إقبالاً جيداً من أهالي المنطقة على حلوياته، الأمر الذي دفعه لتوسيع الورشة وإدخال أشخاص من أهل البلدة نفسها ضمن هذا العمل، حيث يصل عدد العمال في وقت الذروة 13 عاملاً.
بينما عمد أبو عبد الله (43عاماً) من سكان حي القدم الدمشقي إلى افتتاح مطعمه (الميدان) الخاص بصناعة الأكلات الشعبية (فول-حمص-فلافل) في مدينة كفرنبل القريبة من مكان سكنه في قرية “الجدار”.
صغر القرية وقلة عدد سكانها دفع أبو عبد الله لافتتاح مطعمه في كفرنبل بالرغم من “تعرض المدينة للقصف في تلك الفترة”، والذي طال محله فخسر “700 دولاراً جرّاء تضرره بالقصف” إلّا أنه أعاد افتتاح مطعمه في مكان آخر من المدينة، ويصف أبو عبد الله عمله “بالجيد” ويستطيع من خلاله تأمين نفقات منزله وأجرة الشاب الذي يعمل معه، وهو من أهالي كفرنبل.
عملت بعض المنظمات والمؤسسات الخدمية على تقديم بعض المساعدات للشباب الباحث عن فرصة عمل، لتحقيق تنمية مستدامة بافتتاح مشاريعهم متناهية الصغر، وقدّمت لهم “المعدات الضرورية لذلك”، كمؤسسة يد واحدة التي انتقلت مع أبناء الغوطة في رحلة التهجير الأخيرة، والمتتبع لصفحتها الشخصية على الفيس بوك يلاحظ افتتاح مشاريع متناهية الصغر بشكل شبه أسبوعي (تقديم عدة نجارة –قصابة –حدادة –دهان –كهرباء- بعض لوازم تصليح السيارات –بيع وقود –دكان سمانة) للوافدين من الغوطة.
كما يقدم “صندوق الحياة” قروضاً صغيرة “دون فائدة” لتطوير العمل في المشاريع الصغيرة، وتعمل المؤسسات على تدريب أهالي المنطقة (خاصة من النساء) على بعض الصناعات الغذائية والحرفية كـ (حياكة الصوف والخياطة والتجميل والأعمال الفنية اليدوية وصناعة الألبان والأجبان) مع مساعدة مالية للمتدربات على بدء مشروعهن المنزلي الصغير الذي يساعدهن على تأمين جزء من احتياجات منازلهن.
تقول “الكوافيرة ضحى” كما يصطلح تسمية “مهنة صالون تزيين وتجميل السيدات” عند أهالي المحافظة، “الحياة لسا مستمرة ورح تضل، وكل النساء بتحب تصير أحلى وتغير من شكلا ولون شعرا، رغم الحرب والقصف”، إذ لا تكاد تخلو مدينة أو قرية من عدد لا بأس به من “صالونات التجميل”.
من جهة أخرى، لم يتمكن كل الوافدين من تأمين فرصة عمل أو افتتاح ورشة خاصة بهم، هذا الأمر حصل مع الشاب طارق (20 عاماً من أهالي بلدة زملكا في الغوطة الشرقية) حيث يعمل طارق اليوم في أحد مطاعم مدينة إدلب لتأمين مصروفه اليومي، بالرغم من كونه يتقن صنع الحقائب النسائية (سابقاً)؛ لكنه لم يتمكن من افتتاح ورشته الخاصة به بسبب ضعف امكانياته المادية من جهة، وبسبب حاجته لبعض التدريب في هذا المجال من جهة أخرى ” أنا بتمنى افتح مشروع خاص بالشغل يلي بعرفه بس أنا لس بحاجة لبعض التدريب، وما اقدرت أتدرب لأن يلي بيشتغلوا بنفس مجالي عايشين بريف حلب الشمالي وما عندي مقدرة عيش هنييك وبنفس الوقت ما عندي إمكانية لأفتح مشروع خاص”.
تقرّ الدراسات الاقتصادية في سوريا 2009 بأن المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر شكلت 49.8 من الناتج المحلي، بعدد عاملين تجاوز 3.5 مليون شخص، وبنسبة 70.9% من العدد الكلي للعمال فيها، وهو ما يشكل دلالة واضحة على أهمية إنشاء هذه المشاريع ودعمها كـ “حلّ” ضامن لاستمرار عجلة الحياة، وتطويرها مستقبلاً لتتحول إلى مشاريع تساهم في استقرار هذه المناطق وبنائها.