لم تخالف المظاهرات، التي انطلقت في معظم نقاط الشمال السوري من مدن وبلدات، المتوقع، فأهل تلك المناطق شاركوا منذ بداية الثورة السورية بمئات المظاهرات، وقدموا خلال السنوات الأولى من الثورة عشرات اللافتات التي اتسمت أحياناً برسائل واضحة قاسية، أو اتهامات مباشرة، لم تخل من السخرية المحببة التي انتشرت صورها عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتتناقلها الألسنة، ولتصبح “لازمة” نعود إليها كلّما ضاقت بنا سبل التعبير.
غير المتوقع كان دهشتنا من عودة المظاهرات، وكأننا أردنا القول في نفوسنا إن زمن الثورة السلمية قد ولّى، وإنه لمن العبث خروج المظاهرات اليوم في ظل تحول السوريين إلى الحرب العسكرية بمسمياتها “الثورة المسلحة –القتال –الجهاد…”، ناسين أو متجاهلين أثر تلك المظاهرات، سابقاً، في قض مضاجع الأسد وتعميق الروح الثورية عند الشباب السوري، وجذبهم للمشاركة وتحديد موقفهم إزاء ما كان يحدث، والأهم من ذلك كان قدرتنا على مواجهة منتقدينا بـ “طهر ما نفعل”، وأعدائنا بـ “سلمية الحراك وصفائه، وصدق شعاراته ولافتاته وأغانيه”.
في واحدة من جلسات النقاش التي انقسمت بين مؤيد ومعارض للثورة في حلب بداية 2012، كان من السهل علينا جدّاً حصر المؤيدين في الزاوية، وتعريتهم من أي سلاح أو تهمة، دائماً كانوا يلجؤون للدفاع عن مواقفهم بجمل غبية كتلك التي تعترض على “مسك الأكتاف والقفز في المظاهرات” ليصفوها بتعابير كـ “الهمجية”، أو اعتمادهم على بعض الشعارات التي انطلقت لمرات قليلة ودون تخطيط، والتي تحمل في متنها بعض العبارات “الطائفية” كـ “المسيحية عبيروت والعلوية عالتابوت”، إلّا أنهم كانوا يعرفون في قرارة نفوسهم زيف ادعاءاتهم، حين يختصرون آلاف الشعارات عن الوحدة والتعايش والحرية والكرامة وغيرها من القيم التي تمثلتها الثورة بعبارة قيلت لمرة واحدة أو مرتين.
ربما كان الخيار العسكري ضرورة في مرحلة ما، فهذا “النظام” بحد رأي أكثر الشعب السوري، ونظراً لمعرفتهم بمدى إجرامه وصلفه، لن يسقط إلّا بـ “قوة السلاح”، ولكن غياب المظاهرات عن المناطق المحررة في تلك المرحلة أفقدت هذا الحراك جزءً أساسياً من تكوينه، ولعله الجزء الأهم، كونه روح الثورة وعمودها الفقري، و “المغناطيس الجاذب للشعب السوري” كما عبر واحد من نشطاء الثورة، حين كان إطلاق الصوت والهتاف “يريحنا” بل “يشعرنا بالانعتاق والحب والفرح والأمل” على حد قوله.
ما زالت المظاهرات سبيلاً للوصول إلى الهدف، ترى ذلك، على الأقل، من خلال الوحدة بين أطياف الثورة نفسها، بمختلف مسمياتها وتبعيتها، الكل متفق على المشاعر التي ولدتها عودة المظاهرات في الجمعتين السابقتين، ومنتظر أيضاً بحالة من القلق والأمنيات بالمشاركة، مظاهرات الجمعة القادمة، يتناقل تسميتها التي اعتاد السوريون على إطلاقها كوسم للجمعة القادمة، في الوقت الذي يعدها موالون للأسد “حالة ارتباك” تعيشها المناطق المحررة “بعد أن أفلست الجماعات الإرهابية من الانتصار بالقوة فعادوا للتظاهر”، وإن أيقنا بصحة قولهم، فلماذا هم مهتمون بها وبمتابعة أخبارها؟ والسؤال الأهم لماذا هم خائفون من اشتعالها مرة أخرى، حتى في المناطق التي يسيطرون عليها؟
يتوحد الثوار اليوم، كما كانوا سابقاً، تحت راية واحدة، وبهتافات متشابهة، وصل صداها مرة أخرى إلى مناقشات مجلس الأمن، وباتت ركيزة للدفاع عن الحق والكرامة والتعريف بماهية “الصراع” مع “القتلة” لإثبات أحقية السوريين في بلد يصرخون فيه بملء إرادتهم عن وجعهم وأحلامهم وأمنياتهم.
لنترك لأولئك الشبان خياراتهم الجديدة/ القديمة، ولنكفّ عن انتقادهم وتحطيمهم، بعيداً عن تحليلاتنا السياسية وانتقاداتنا الغبية، ولنستثمر فيهم ما عجزنا نحن عن تحقيقه، فـ “المشهد يتكرر ثانية”، وكأن روحاً جديدة بثت في داخلنا لتعيدنا إلى الحياة.