لم يعد “بيت المونة”، وهو الاسم الذي تطلقه النساء السوريات عادة على المكان الذي يحفظون فيه المؤن، حاضراً في بيوت السوريين في المناطق المحررة، بسبب ارتفاع الأسعار وغياب بعض المواد الأساسية لصناعتها، وتحوّلت صناعة “المونة” إلى عمل تمتهنه بعض النساء من خلال مبادرات فردية أو جماعية أو مشاريع لمؤسسات ومنظمات إنسانية لتصنيع ما تحتاجه العائلات وبيعه بأسعار مقبولة تكتفي فيه العائلات بأخذ حاجتها من الأسواق دون الحاجة لشراء منتجات معبأة في ورش ومعامل، إذ تشعر الأسرة التي تتناول هذه المنتجات وكأنها محضرة من قبل ربة المنزل نفسها.
ومن أبرز هذه المبادرات “مشروع الصناعات الغذائية والزراعية” التي قدمته “منظمة إحسان” في مدينة كفرنبل (غرب معرة النعمان 13 كم)، ضم المشروع 23 سيدة من زوجات الشهداء والمعتقلين، ويهدف إلى تمكين المرأة المعيلة وتدريبها وتأمين فرصة منزلي لها يغطي من خلال مردوده المادي بعض احتياجات العائلة.
وخضعت تلك النساء لدورات دعم نفسي لتشجيعهم على الانخراط بالمجتمع، ولفت أنظارهن إلى أهمية العمل والالتزام به بالإضافة لدورات تدريب على الأعمال الغذائية، التي يقمن بها اليوم، قبل المباشرة بالعمل، بحسب ما ذكر أبو عبدو “أحد أعضاء مجلس الإدارة”.
تعمل أم سامر (42 عاماً) في صناعة “المونة” والجبن واللبن والمخللات ضمن المشروع، وتجد في هذا العمل فرصة “رائعة” لها على حد قولها، فبعد أن قتل زوجها في مطلع الثورة السورية 2011، وجدت أم سامر نفسها وحيدة مع أطفالها الستة، وكان عليها البحث عن طريقة لتأمين “قوت يومها” إلى أن أسعفتها الظروف بالانضمام إلى المشروع “كنت اشتغل هيك شي لبيتي بس بعمري ما فكرت اشتغل وبيع بس حالياً لقيتها فرصة مناسبة وعمل مناسب لسيدة متلي”.
تكسب أم سامر من عملها ما يعادل 150 دولاراً، هي غير كافية لتغطية نفقات منزلها إلّا أنها تشكل داعماً حقيقياً يلبي كثيراً من احتياجاتها، إضافة إلى الراحة النفسية التي شعرت بها منذ أن بدأت بالعمل “بلشت شغل مع هالجماعة من أول السنة والحمد لله مبسوطة أنو صار عندي دخل من شغلي الخاص”.
تأمل أم سامر بتحسين دخلها من عملها، إذ تعتبرهن المنظمة شريكات في العمل ولسن موظفات برواتب ثابتة.
تجربة أخرى عرفتها مدينة إدلب، من خلال مبادرة فردية (صناعة المونة وبيعها) قامت بها أم محمد (32 عاماً)، بعد أن اعتقل زوجها منذ خمس سنوات تاركاً لها ثلاثة أطفال وجدّتهم التسعينية.
ترتاد أم محمد الأسواق في كل يوم باحثة عن خضار وفواكه لتحولها إلى منتجات جاهزة “مونة” وتبيعها إلى المحلات التجارية في المحافظة، وعن تجربتها تروي أم محمد “البداية كانت من منظمة (بارقة أمل) التي تعنى بشؤون النساء، خاصة زوجات المعتقلين، وتعمل على تقديم الدعم النفسي والتربوي لهن، وهذا ما بث في داخلي روح الأمل والحياة من جديد، بعد أشهر عشتها مليئة بالخوف والحزن والترقب بانتظار أي خبر عن زوجي المعتقل، والحمل الذي تركه لي مع صعوبة الحياة وغلاء الأسعار واشتداد القصف”، لتكمل السيدة التي لم تكن تمتلك مالاً أو شهادة أو حرفة للبحث عن عمل “أطلقت مشروعي الخاص بصناعة المونة في بيتي، وعرضها على نساء الجمعية اللواتي أبدين إعجابهن بعملي، وعملن على تشجيعي من خلال شراء ما أنتجه، وبتن يطلبن مني صناعة بعض المنتجات لهن”.
“الي ما بيغني بيستر” قالت أم محمد التي قررت توسيع عملها، وتمكنت من الحصول على عقد لمدة ثلاثة أشهر مع منظمة بنفسج بهدف تدريب سيدات على نفس العمل، وبعد انتهاء العقد عملت أم محمد على تحويل بيتها الصغير إلى ورشة بسيطة لعملها بمساندة أطفالها ووالدة زوجها كل منهم على قدر طاقته، ويوما بعد يوم طورت عملها لتبدأ بصناعة المخللات والمربيات بالإضافة للمونة.
ترى أم محمد أن المنظمة التطوعية التي عملت معها كان لها الدور الأبرز في نهضتها كما ساعدتها تلك المنظمة في عرض منتجاتها تشجيعا لها على الاستمرار.
الدخل الذي تجنيه أم محمد من عملها هذا لا يؤمن لها كل مستلزماتها لكنها سعيدة جداً به، وسعيدة أكثر لأنها باتت تشعر بقدراتها، وكيف حولت نفسها من فرد مستهلك إلى فرد منتج في هذا المجتمع.