“عمّو شو زمرة دمك –عمّو تتبرعلي بالدم الله يوفقك” يوقف الطفل محمد (15 عاماً) المّارة في مدينة الباب (شرق حلب)، أمام مشفى الحكمة، طالباً منهم التبرع له بالدم الذي يحتاجه لثلاث مرات شهرياً، بعد إصابته بمرض الثلاسيميا.
يحاول محمد تأمين متبرعين للدم له ولأخوته الثلاثة الذين يعانون من مرض الثلاسيميا (15-12-10-8 سنوات)، بالتعاون مع كادر المشفى “صاروا يعرفوني ويساعدوني للاقي متبرعين، أو يعطوني دم إذا موجود عندهون”، لكن ندرة زمرة دم العائلة (O+) تضطره في كل مرة للبحث عن متبرعين في شوارع المدينة.
التعريف بالثلاسيميا
الثلاسيميا اضطراب وراثي مرتبط بالدم، ينجم عن غياب أو انخفاض إنتاج الهيموجلوبين (بروتين في كريات الدم مسؤول عن حمل الأكسجين إلى الأنسجة)، وهو مرض وراثي مزمن يحدث نتيجة خلل في المورثات المسؤولة عن تصنيع الخضاب، ونتيجة لذلك تتكسر خلايا الدم باكراً، ولا يستطيع نقي العظم تعويض هذا النقص الكبير من كريات الدم، ما يؤدي لحدوث فقر شديد في الدم يحتاج تعويضه عن طريق نقل الدم أو زرع نقي للعظام.
وتسمى الثلاسيميا بـ “أنيميا البحر المتوسط ” نظراً لزيادة المصابين بها في البلدان الواقعة في حوض البحر المتوسط، ويعود أول وصف لها للعام 1925 على يد الطبيب “توماس كولي من ديترويت في الولايات المتحدة”، وفي العام 1930 عرف المرض، وفي عام 1959 شرح العالم “انغرام” التركيب الجيني للهيموجلوبين وعرف سبب المرض وطريقة توارثه.
وينقسم إلى ثلاثة أقسام، الثلاسيميا الكبرى “بيتا ثلاسيميا” وهي غياب الهيموجلوبين وينقص تشكله بسبب غياب سلاسل “بيتا” غياباً تاماً أو بنقص تشكلها، وتظهر أعراضه بعد الولادة من عمر 6 أشهر وحتى السنتين ويستمر مدى الحياة، ولا يوجد له علاج سوى بنقل الدم بشكل دوري ومنتظم.
الثلاسيميا الوسطى: تتراوح نسبة الهيموجلوبين بين 7-10 غ/دل وهي لا تحتاج إلى نقل الدم بشكل دوري.
الثلاسيميا الصغرى وهي تشكل لا عرضي لـ “الثلاسيميا الصامتة” تتراوح نسبة الهيموجلوبين فيها بين 10-12غ/دل، ويسمى المريض حينها بالحامل للمرض، ولا تظهر عليه الأعراض ولا يحتاج لعلاج أو نقل للدم.
وتسبب الثلاسيميا الكبرى، بسبب انحلال الدم المزمن وانقلاب الدم المتكرر طيلة الحياة، تراكم لشاردة الحديد الناتجة عن الانحلال وفقر الدم ما يسبب اختلاطات كـ قصور القلب وتشمع الكبد وضخامة في الطحال وفشل في النمو وترقق في العظام وداء السكري.
الثلاسيميا بالأرقام
يموت 80% من المرضى المصابين بالثلاسيميا في العقد الأول من العمر، إن لم يتلقوا العلاج المناسب، ويبلغ متوسط أعمار المرضى في سوريا 25-30 سنة، 55% منهم من الذكور و45% من الإناث بحسب، ماهر الحسامي وزير الصحة في حكومة النظام 2013، في ندوة بمناسبة اليوم العالمي للثلاسيما الذي حددته منظمة الصحة العالمية في 8 أيار/مايو من كل عام.
عالمياً، قدرت منظمة الصحة العالمية عدد المصابين بالثلاسيميا في تقرير لها صدر في عام 2015بـ (4.4 مولود من كل 10000 ولادة طبيعية) في جميع أنحاء العالم، وأشار القرير الصادر عن المنظمة أن 5% من سكان العالم حاملين لسمة الثلاسيميا (ثلاسيميا صغرى) ويطلق عليهم “الناقلين الصامتين”، بينما قدرت نسبة الأشخاص الذين تظهر عليهم أعراض سريرية نتيجة الطفرات الجينية (ثلاسيميا كبرى أو متوسطة) بـ 1.7%.
في سوريا (مناطق حكومة الأسد): أقرت وزارة الصحة في تقرير لها عام 2013 أن عدد المصابين بالثلاسيميا والمسجلين في مراكزها أكثر من 8300 مصاباً (ثلاسيميا كبرى)، أما الحاملين لسمة الثلاسيميا فيقدر عددهم بـ (مليون إلى مليون ونصف المليون) وهو ما يقارب 7% من عدد السكان بحسب ماهر الحسامي وزير الصحة
في الشمال السوري (مناطق المعارضة) لا توجد إحصائيات دقيقة لعدد المرضى وتقدر في المناطق الشرقية والشمالية لحلب، من خلال إحصائيات أجراها معدا التحقيق بما يقارب 200 مصاباً (60 في وحدة الثلاسيميا -في مشفى الشهيد محمد وسيم معاز بالقرب من باب السلامة شمال إعزاز- التابعة لمنظمة الأطباء المستقلين ida، و50 في المركز التخصصي لعلاج مرضى الثلاسيميا والأطفال في إعزاز المدعوم من قبل منظمة الإغاثة الإسلامية، إضافة إلى مرضى الثلاسيميا الذين يتلقون العلاج في مشافي مدينتي الباب وجرابلس، وهم مرضى غير مسجلين ولا يوجد في هذه المشافي قسم خاص بمرضى الثلاسيميا، ويقدر عددهم بـ 50 مريضاً، يضاف إليهم مرضى الثلاسيميا الذين يتوجهون إلى مدينة حلب (تسيطر عليها حكومة النظام) لتلقي العلاج.
أما في ريف حلب الغربي ومناطق محافظة إدلب (تسيطر عليها المعارضة) فيزيد عدد المصابين عن 935 (300 في مدينة إدلب -398في كفرنبل -60 في مركز معرة النعمان -50 في سراقب -125 في الأتارب)، يضاف إليهم أكثر من 100 مريض (يتوجهون إلى المشافي لنقل الدم أو إلى مناطق خاضعة لحكومة الأسد).
بنوك الدم في الشمال السوري تؤمن حاجة مرضى الثلاسيميا والمراكز تؤمن الأدوية اللازمة
يوجد في محافظة إدلب وريف حلب الغربي 6 بنوك للدم، في (مدينة إدلب –كفرنبل –سراقب –معرة النعمان -باب الهوى –الأتارب) ويتم الحصول على احتياجات هذه المراكز من خلال عمليات قطاف دورية، تختلف بحسب الحاجة والاحتياطي في بنك الدم.
يقول مدير بنك الدم في معرة النعمان “إن هذه الحملات تتكرر مرتين على الأقل أسبوعياً، وتتم بالتعاون بين بنك الدم والمجالس المحلية”، ويقدم بنك الدم للمشافي ومراكز الثلاسيميا الدم ومشتقاته (دم –بلاسما –صفيحات) بعد إجراء التحاليل اللازمة، وتدعم هذه البنوك مديريات الصحة في مناطق المعارضة أو منظمات إنسانية كمنظمة “سامز” ومنظمة الأطباء المستقلين ida.
بينما لا يوجد في المناطق الشرقية والشمالية من حلب سوى بنك دم مركزي واحد في مدينة إعزاز تدعمه منظمة ida تم افتتاحه في العام 2016، إضافة إلى بنك دم مصغر في مركز “خير” في مدينة مارع والذي تدعمه منظمة وطن، ويوجد في المستشفيات برادات خاصة لتخزين الدم الذي يتم طلبه من بنك الدم.
يقول الدكتور أحمد الحسن مدير بنك الدم في إعزاز “لا تختلف آلية الحصول على الدم عنها في محافظة إدلب، إذ يعتمد بنك الدم على الجولات مرتين أو ثلاث مرات أسبوعياً لتأمين احتياج المشافي ومراكز الثلاسيميا في المنطقة”، ويتم الاحتفاظ بعناوين وأرقام هواتف أصحاب الزمر النادرة للتواصل معهم وقت الحاجة، وكان المركز قد وجه كتاباً رسمياً إلى المجلس المحلي بفرض بند التبرع بالدم على المواطنين عند التسجيل أو الحصول على الوثائق الرسمية، لكن هذا الأمر لم يتم حتى اللحظة.
وتقدم مراكز الثلاسيميا “أدوية خالبات الحديد، الديس فرال ( فيال ) و فيروبروكس (حبْ) ، ونقل الدم الدوري (يحتاج مريض الثلاسيميا إلى ما يقارب 1200 وحدة دم شهرياً، وبعض التحاليل” بحسب الممرض محمود حسون (مركز ثلاسيميا الأتارب)، وينقص المراكز “مضخات لتسريب حقن الديس فرال والأدوية التي تقدم غالية الثمن” الأمر الذي أكدته الدكتورة غفران مديرة وحدة الثلاسيميا في مشفى الشهيد محمد وسيم معاز في إعزاز ” أهم الصعوبات التي تواجه العيادة التكلفة المرتفعة لثمن الأدوية وعدم وجود داعم لها”.
عبد الرزاق عيسى والد الطفل محمد قال إن هناك زمر للدم مفقودة، ونادراً ما يؤمن له بنك الدم حاجة أطفاله الأربعة ما يضطره للبحث عن متبرع، كما أنه يضطر لإجراء التحاليل اللازمة غير المتوفرة في المشافي على نفقته الخاصة، وشراء بعض الأدوية اللازمة لمعالجة الاختلاطات التي سببتها الثلاسيميا، على الرغم من ارتفاع ثمنها.
عائلة عبد الرزاق عيسى المصابة بالثلاسيميا – فوكس حلب
وتقدر وزارة الصحة في مناطق النظام كلفة علاج مريض الثلاسيميا بـ (10000 دولار) سنوياً، تتكفل بها الحكومة، وهذا ما أكده عبد الرزاق الذي كان يعالج عائلته في مركز الثلاسيميا في حلب، “الأمور كانت منيحة ولكل واحد إضبارة وموعد محدد، وكل الأدوية والتحاليل مجانية”، الأمر نفسه تقدمه مناطق المعارضة حالياً إلّا أن الإمكانيات مختلفة “مو كل التحاليل والأدوية موجودة” – يحتاج المريض بعد إخضاعه لنقل الدم إلى مراقبة وظائف الكبد والكلية وإعطائه لقاحات السحائيات والمستديمات النزلية ومراقبة السكر والكالسيوم- يضاف إلى ذلك بعد المسافة بين بنك الدم والمشافي، إذ تحتاج عائلة عبد الرزاق للوصول إلى مدينة اعزاز ما يقارب (50 دولاراً في كل مرة يراجعون فيها مركز الثلاسيميا)، في الوقت الذي يعيش فيه الرجل كنازح في بلدة قباسين بلا “أبواب أو شبابيك” الأمر الذي اضطره للعمل كـ مياوم في مدينة الباب وبأجر شهري لا يتجاوز (100دولار)، كما يعمل طفله الكبير محمد (مصاب بالثلاسيميا) في محل “كومجي” في المنطقة لمساعدة أسرته.
لا يتم تغذية المشافي بالدم إلّا عند الطلب، “فكيس الدم يتلف بعد شهر من القطاف أما الصفيحات فتتلف بعد خمسة أيام” يقول الدكتور الحسن مدير بنك الدم، إلّا أن الأهالي يتساءلون عن السبب الذي يمنع قيام بنك للدم في منطقة متوسطة، على الأقل، بين المدن الكبرى الثلاثة (الباب –إعزاز –جرابلس)، أو تسجيل مرضى الثلاسيميا في المشافي ومنحهم أضابير يتم بموجبها إرسال أكياس الدم والعلاج من بنك الدم وعلى نفقته.
وبالرغم من أن حكومة النظام تقدم العلاج والدم والتحاليل بشكل مجاني لمرضى الثلاسيميا، إلّا أن المرضى يخشون الذهاب إليها بسبب الحواجز المنتشرة على الطريق، يضاف إلى ذلك كلفة الطريق والوقت الذي يحتاجه الوصول.
سائق السيارة محمد عبد المنعم قال لمعد التحقيق إن الوصول من إدلب وحتى حلب “يحتاج إلى 22 ساعة، إن جرت الأمور على ما يرام، ولم توقفنا الحواجز على الطريق، وبكلفة تصل إلى 53دولاراً للراكب الواحد” بينما يحتاج الطريق من مدينة الباب إلى حلب إلى “تسع ساعات و33.5 دولاراً للراكب الواحد”، ناهيك عن “مصاريف الطعام والمنامة، والتي تتجاوز 150 دولاراً للإقامة لمدة يومين”، والأهم من ذلك تعرض هذه الممرات التي تفصل مناطق المعارضة عن النظام للإغلاق ودون سابق إنذار، تقول السيدة سعاد أم لطفل مريض بالثلاسيميا “عند عودتي من حلب في 11 آب الماضي، تم إغلاق ممر عون الدادات –الممر الوحيد نحو مناطق المعارضة- واضطررنا للنوم في العراء لمدة يوم كامل ليسمح لنا بالدخول”، بينما أغلقت كافة الممرات أمام المدنيين من محافظة إدلب نحو مناطق النظام منذ بداية شهر آب 2018.
أما كلفة عملية زرع نقي أو خلايا فتصل إلى أكثر من 110 آلاف دولاراً أمريكياً، في الوقت الذي لا يزيد فيه متوسط الدخل في سوريا عن 100 دولاراً، ويعيش 86.7% من السكان تحت خط الفقر بموجب دراسة أجراها مركز فيريل للدراسات في ألمانيا.
زواج المصابين بالثلاسيميا أهم أسباب انتشار المرض، وغياب لطرق منعه
لا ينتقل مرض الثلاسيميا إلّا عن طريق الوراثة، ويشكل احتمال ولادة طفل مصاب بهذا المرض لأبوين مصابين (أيّاً كان نوع الثلاسيميا) 25%، ويرى الطبيب مصطفى شعبان (أخصائي بأمراض الدم) أنه “بالإمكان تجنب هذا المرض من خلال تحليل بسيط للثلاسيميا (تحليل دم هيموجلوبين الكتروفوريسييز) يكون شرطاً للزواج، لتجنب ولادة طفل مصاب”، وعليه “يجب على المصاب أن يختار شريكاً لا يحمل هذا الجين، وفي هذه الحالة تكون احتمالية ولادة طفل مصاب شبه معدومة”.
وعلى الرغم من وجود قانون في مناطق النظام يفرض إجراء هذه التحاليل إلّا أن 25 % من حالات الزواج في العام 2010 في مدينة دمشق وحدها، تمت خارج نطاق المحاكم “كتاب شيخ –عقد قران ينظمه أحد المشايخ أو الأشخاص وهو عقد جائز شرعاً بوجود الشهود، وتثبته المحاكم الشرعية بعد دفع مخالفة مالية” بحسب وزير الصحة، بينما لا تشترط المحاكم التابعة للمعارضة السورية إجراء هذه التحاليل، وأكثر من 90% من حالات الزواج تتم عن طريق “كتاب الشيخ”.
ويرى المحامي عادل الأسعد أن على المحاكم فرض هذه التحاليل بصورة إجبارية للخطيبين قبل الزواج، ومنع حدوثه في حال كانا مصابين.
غياب مراكز الدعم النفسي لا يقل أهمية عن غياب العلاج
تقول دراسة ماجستير أجرتها الطالبة بشائر مرسي الربّاط (قسم الإرشاد النفسي في كلية التربية) بعنوان “البناء النفسي لمرضى الثلاسيميا” على عينة من المصابين بالثلاسيميا ومثلهم من الأصحاء بأعمار مختلفة في دمشق “إن استجابة الأطفال المرضى تختلف عن استجابة أقرانهم الأصحاء، كما تظهر أعراض القلق بشكل حاد وقلة التكيف الأسري والنظرة السلبية للحياة وعدم الكفاءة الشخصية والاعتمادية عند المراهقين المصابين، يضاف إلى ظهور أعراض العدوان/العداء والتقدير السلبي للذات عند بعض المصابين، وتظهر في شخصياتهم: السلبية والشعور بالنقص والسعي الدائم للكمال ومشاعر الذنب والاغتراب”.
وأوضحت الدراسة نقلاً عن دراسة أجراها الباحث شاليغرام ” أن 44% من المصابين بالثلاسيميا لديهم مشكلا نفسية، و74% لديهم درجة منخفضة في نوعية الحياة، و67% يعانون من قلق الموت و20% من اكتئاب ومشاكل عاطفية و49% من مشكلات في السلوك والتصرف”، كما أكدت الدراسة أن النقل المتكرر للدم يؤثر سلباً على الصحة النفسية المرتبطة بنوعية الحياة والحياة المدرسية.
ولا توجد أي عيادات متخصصة للعلاج والدعم النفسي في مراكز الثلاسيميا في الشمال السوري، ولا يخضع المصابين لمثل هذه العلاجات، كما لا توجد حملات توعوية للتعريف بالمرض وآثاره وكيفية التعامل مع المرضى، ما يسبب تفاقماً في الآثار النفسية لهم، لظهور تغيرات جسدية على المصابين تجعلهم مصدر خوف وتجنب وأحياناً سخرية من قبل أقرانهم في المدارس والأحياء السكنية.
في الوقت الذي يخرج فيه عبد الرزاق عيسى والد الطفل المصاب محمد باحثاً عن لقمة عيشه، يضطر محمد للتغيب عن محل “الكومجي” ثلاث مرات شهرياً لتلقي العلاج مع أخوته الثلاثة، لتبدأ رحلة البحث عن متبرع من جديد.