شبّ حريق هائل في عام 1994 وعلى الطريق الممتد بين عين التل ومخيم حندرات بحلب، أحرق مئات الآلاف من أطنان القطن على مساحات كبيرة بالقرب من المحالج الثلاثة في المنطقة، واستمر الحريق أكثر من شهرين التهمت فيهما النار كل ما كان هناك، وقتها توصّل المحققون، بحسب المتداول من الأخبار، أن سبب الحريق كان “ماساً كهربائياً!” باتت تلك الحجة ديدن المؤسسات الحكومية السورية، إذ يترافق كل جرد في نهاية السنة مع “ماس كهربائي” تأكل نيرانه كل ما من شأنه إثبات فساد حكومي أو سرقة في المخازن والمستودعات أو تلاعب من لجنة المشتريات، على الرغم من حصانة المسؤولين في دولة الأسد ضد المحاسبة، فأينما “غيمت” ستمطر في جيوب الأسد وعائلته والمقربين منه.
لم يكن السوريون غافلين عن هذا الأمر، وهم في قرارة أنفسهم يعرفون زيف هذه الحجة التي تكررت مئات المرات وفي عشرات المؤسسات، وعرضت الحقيقة في حلقات لمسلسلات على التلفزيون السوري، كان أبرزها “يوميات مدير عام”، إلّا أن وعياً جمعياً كان يتشكل في تلك الآونة، ليجعل الجميع يصدق ما تطعمه إياه السلطة الحاكمة، ويدافع عنه، حتى بات الكذب صدقاً، والحقيقة تهمة علينا أن نواجهها بما نمتلك من قوة وحجج.
البارحة قصف “مطار المزة العسكري”، عشرات الفيديوهات من مناطق سيطرة نظام الأسد انتشرت لتدل على انفجار كبير حصل في المطار سيء الصيت، والذي اتخذه الأسد معتقلاً للسوريين الخارجين على حكمه، تقارير إخبارية رافقت الانفجار ولصفحات موالية اتهمت “العدو الإسرائيلي” باستهداف المطار، بعضها رأى الصواريخ وهي تتناثر منفجرة في الهواء كـ “الفراش” بعد تدميرها بالمضادات الأرضية، وسط صمت للقنوات الرسمية والموالية التلفزيونية، والتي كانت تعرض مسلسلاً لـ “الزير سالم”. لم تعلن “إسرائيل” عن ضربها للمطار، وتلك فرصة انتظرتها حكومة الأسد لتعرف كيف ستسوق لهذه الضربة، كعادتها في التزييف، فبعد أن أعادت الضربة “الإسرائيلية” الأخيرة لمواليها “شعورهم بالكرامة” لما سوق وقتها من رد على “الضربة”، واستهداف المناطق المحتلة “الإسرائيلية”، وتغير في قواعد اللعبة، من الاحتفاظ بحق الرد إلى الرد المباشر، وتداولت صفحاتهم حديثاً عن “تلك اللحظة التي أغرقت أعينهم بالدمع” فـ “الحمد لله الذي أحياهم ليروا ذلك اليوم التي ترد سوريا على أي عدوان عليها”، سوى “الثورة السورية” التي يرونها عدواناً، ويردون عليها بكل ما يملكون من قوة، لم يعد بالإمكان إرجاعهم لـ “الحظيرة” التي أخرجتهم منها حكومتهم، وكيف سيجدون المبرر لعدم الرد هذه المرة؟
ساعات مرّت قبل أن تعلن حكومة الأسد عن الانفجار الذي استهدف مستودعاً للذخيرة، على حد قولهم، ولكنه لم يكن ناتجاً عن هجوم “إسرائيلي” بل كان “ماساً كهربائياً آخر هذه المرة”. ربما لم تنطلي الحجة القديمة الجديدة على الموالين هذه المرة، لكن كثيراً منهم أدرك عودة الحكومة إلى القواعد السابقة، ليبدأ بالنفي من جديد، وتكذيب بعضهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تعقد صباح اليوم “حلقات الدبكة”، إذ لم يكن هناك نصر جديد لـ “المقاومة” يستدعي “النخ والرقص وصور القائد المفدى”، بينما لجأ بعضهم إلى التورية والاختباء خلف السخرية، ليتساءل عن الصواريخ التي دمرتها المضادات الأرضية، والتي تناقلت الصفحات إسقاطها، جاء الجواب مقنعاً، “لم تكن تلك المضادات وأصوات إطلاق النار سوي لإيقاظ وزير الكهرباء النائم، ليفصل قاطع الكهرباء عن المطار واحتواء الحريق الجديد”.