لشهر آب مع مدينة داريا (أكبر مدن الغوطة غربي دمشق) حكاية كاملة، فمعظم الأحداث الجسيمة التي مرت بها المدينة كانت تتم فصولها في هذا الشهر، لا نعرف إن كانت مصادفة أم بتخطيط مسبق من قوات الأسد، فبعد مجزرة داريا الكبرى التي جرت في 25 آب 2016، شهدت المدينة تهجيرها الكامل في 28 آب 2016، ليحدد المكتب التنفيذي (التابع لحكومة الأسد) يوم 28 آب القادم موعداً لدخول الأهالي إلى المدينة، وفي هذا التحديد رمزية يحاول بها نظام الأسد طمس جرائمه في التهجير القسري الذي مورس منذ سنتين على أهالي داريا، واستبدال الذاكرة بـ “نصر مزعوم” يسعى لترويجه عبر دعوة الأهالي للعودة، وكأن شيئاً لم يكن.
انقسم أهالي داريا (سواء الذين انتشروا حول العاصمة كنازحين أو أولئك الذي هجّروا إلى الشمال السوري) حول تلقي النبأ بحكم المكان الذي يتواجدون فيه. ففي الوقت الذي حزم به النازحون حقائبهم عاش المهجرون بعيدا في الشمال السوري مشاعر متناقضة بين الشوق الذي لا ينتهي لمدينتهم، واستحالة تواجدهم تحت سيطرة النظام بعد سنوات طويلة من المقاومة.
كأي حدث بارز كان وقع سماع خبر العودة إلى داريا قوياً وصادماً للبعض. يتذكر المقاتل “أبو حسني” الساعات الأخيرة التي قضاها عشية إخلاء المدينة من ناسها ومقاتليها. كانت حافلات التهجير قد دخلت لاصطحاب القافلة الأولى التي ستغادر نحو الشمال السوري “لا يمكنني ترك بيتي لتدنسه أقدامهم”، قال أبو حسني بصوت مرتفع وهو يحاول إحراق شقته الجميلة التي لم يبارحها حتى في أحلك ظروف الحرب والحصار. أمام اللهيب الذي شرع بالتهام مفروشات المنزل وقف أبو حسني، رافع الرأس، متذكراً سنوات طويلة من الصمود والقتال دون كلل أو ملل. التهمت النيران كل شيء في الشقة بينما بقيت الذكريات التي لم تبارح مخيلته حتى اليوم.
“هل تشتاق للعودة إلى داريا؟” يجيب أبو حسني الذي يتحضر للسفر نحو تركيا منذ وقت قصير” كلا.. أفضل العيش في غابة مليئة بالوحوش على الإقامة في مكان يحكمه بشار الأسد… ببساطة هذه البلاد لم تعد لنا طالما أن هذا الوغد لا يزال على كرسي الحكم”.
“الشوق إلى المدينة والتطلع للرجوع إليها” يغلب على شعور العشرات من أبناء المدينة، لاسيما النازحين في مناطق سيطرة النظام. “يمكنني التأقلم على العيش في ظل النظام، لقد عشت سنوات خارج مدينتي تحت حكم النظام وأفضل الحياة داخلها على أي حال”. لا يخفي “سعيد” هذه العبارات عن محدثيه. بدأت تراوده هذه الأفكار منذ الحديث عن العودة إلى المدينة الخالية من السكان.
ينتظر سعيد تنفيذ وعود النظام بالعودة بفارغ الصبر “لا يمكنني تخيل أن مدينتي فارغة بهذه الصورة. اعتدنا على رؤيتها تعج بالحركة وبعشرات الآلاف من السكان.”. قرر سعيد العودة فوراً في حال تم تنفيذ القرار الذي تحدث عنه المكتب التنفيذي لمدينة داريا والذي يتحدث عن استقبال حافل للأهالي عند دوار الزيتونة وسط المدينة. “مهما تغيرت الظروف السياسية تبقى داريا ملكا لأهلها.. علينا ألا نفرط في اقتناص أي فرصة للعودة…”.
يأتي قرار عودة السكان إلى داريا في ظروف مأساوية يعيشها أبناء المدينة. قبل أسابيع تسلمت دائرة النفوس في منطقة المرجة بدمشق قائمة بألف شهيد قضوا تحت التعذيب في سجون النظام. ومنذ أيام عادت الذاكرة بعشرات الآلاف من أهالي داريا إلى ذكرى المجزرة التي قضى خلالها أكثر من ألف شهيد أعدموا بين حواريها وفي أقبيتها. وهاهم اليوم يدعون لدخول المدينة في الذكرى الثانية لإخلائها ودخول مقاتلي النظام الذين لا تعرف الرحمة طريقا إلى قلوبهم. في مشهد لم يشهد السوريون أشد قسوة من تفاصيله المؤلمة.
“عودوا إلى مدينتكم.. لكنكم لن تجدوها” يتحدث العم “أبو إسماعيل” بتأثر واضح. نهاية 2014 وعلى الرغم من حصارها القاسي وظروف الحرب الرهيبة التي تشهدها، عاد أبو إسماعيل إلى داريا. تبدلت معالم المدينة كثيرا بفعل البراميل المتفجرة.. دخل بيته المطل على شارع الثورة وسط المدينة. مع أنه تعرف عليه بصعوبة بالغة إلا انه أحب منظر المدينة من كل قلبه.. “إنها مدمرة حقا لكن الأشهر التي عشتها فيها كانت مختلفة عن كل السنوات التي قضيتها في حياتي.. تذوقت حينها معنى أن تعيش حراً، وأن تندمج مع أحجار منزلك حين يداهمه الأعداء”.
داريا التي يعشقها أبو إسماعيل تضم مجموعة من الشبان الذين تعاهدوا على الاستمرار في القتال لصد الهجمات اليومية لقوات النظام. هدير الحوامات الحربية لا يتوقف… “يسمع المرء صوتا خافتاً ثم يتضاعف الصوت لينتهي بانفجار هائل بفعل البراميل المتفجرة”.
تناول وجبة صغيرة من البرغل أو الرز وقضاء النهار إلى منتصف الليل في احتساء القهوة السادة المطحونة بماكينة يدوية، الذهاب كل ليلة للرباط على تخوم الجهة الغربية للمدينة حيث البساتين لا تزال تكسو المنطقة باللون الأخضر. التسلل في عمق خطوط العدو لزرع العبوات المتفجرة المصنعة محلياً.. زيارة تربة الشهداء عند العودة من الرباط صباحاً والالتقاء بالجيران ومن تبقى من الأقارب والأصحاب للحديث عن تفاصيل الحصار اليومية… شكلت هذه الأشياء داريا الجديدة في ذهن الحاج أبو إسماعيل.
مع جمالية هذا المشهد وقربه من قلوب الثوار وحاضنتهم الشعبية إلا أن مشاهد أخرى تجول في مخيلة الآلاف الذين يعيشون بالقرب من داريا كنازحين منذ بداية تشرين الثاني 2012. وتشكل مظاهر الازدحام والاكتظاظ بالسكان والأسواق والسيارات الإطار الذي يتخيلونه عن داريا قبل اندلاع المعارك نهاية العام الثاني للثورة. هذا المشهد لن يكون موجودا عند عودة الأهالي. فنسبة الدمار في المدينة تتجاوز 70 بالمائة وعلى السكان بناء بيوتهم من جديد وتأهيل المرافق العامة للمدينة دون الاعتماد على النظام الذي لن يقوى على إعادة إعمار ما دمرته آلته الحربية على مر 6 سنوات…
يقول الحاج أبو إسماعيل “كيف ستجدون داريا وسط هذا الحقد الهائل الذي مارسه النظام؟ لا تدخلوا المدينة فهي ليست لكم طالما هناك رئيس يدعى بشار الأسد”.