الهروب من جلسات لعب الورق وتدخين النارجيلة في مقاهي مدينة حلب، قادني في أحد أيام صيف عام 2001 للدخول إلى النادي الفلسطيني في حي الجميلية، كان النقاش محتدماً بين مجموعة من الشبان حول القيادات والفصائل الفلسطينية، وآليات عملها، خطر لي أن أشارك في الحديث الدائر، إلّا أننا وأعني “نحن السوريون” لم يكن لدينا ذلك الانقسام، أو على الأقل لم نكن نعرف إن كنا فعلاً قد اتفقنا على رجل واحد وحزب واحد، أم أن غياب مثل هذه الحوارات في أوساطنا الشبابية، والرقابة الأمنية المفروضة على الاجتماعات الشبابية والأحزاب غير البعثية والكتب السياسية غير المؤلهة للبعث والاشتراكية والممانعة قد حالت دون تشكل الوعي السياسي لدى جيلنا، خاصة بعد سياسة الخوف التي اتبعها رجال الأمن بعد ثمانينات القرن الماضي والمجازر والاعتقالات التي طالت الإسلاميين والشيوعيين على حد سواء.
اكتفيت بسؤال واحد للشبان المجتمعين، حول إمكانية عقد مثل الحوارات في ظل الدولة السورية، وكيف تتداول أسماء القادة الفلسطينيين وكأنهم رجال عاديون مثلنا، كانت الإجابة مختصرة “لقد كسرنا أصنامنا منذ زمن”.
أعادت لي اليوم صورة متداولة على الفيس بوك لساحة في مدينة عفرين رفعت عليها لافتة كتب عليها “ساحة الرئيس رجب طيب أردوغان” باللغتين العربية والتركية تلك الذاكرة القديمة في صناعة الأصنام.
لسنا هنا في طور الحديث عن وقوف الرئيس التركي ومواقفه من الثورة السورية، والخدمات التي قدمتها الدولة التركية من استضافة اللاجئين إلى المشاركة في إمداد المعارضة المسلحة بالسلاح ودعمها لها، وكونها الضامن الفعلي لقوى المعارضة في المؤتمرات الدولية، ولن ندخل في السجال الحاصل سواء بين الموالاة والمعارضة حول الدور التركي أو بين المعارضين أنفسهم في تسمية الوجود التركي مرّة بـ “الضامن” ومرة بـ “الاحتلال”، ولكن ومن الواجب كوننا أهل مكة وأدرى بشعابها أن نقف عند قضية رفع هذه اللافتة وما عززته من انقسام داخلي بيننا نحن “أهل الثورة”.
إن رفع العلم التركي فوق أراضي عفرين خلال معارك غصن الزيتون شكّل وقتها حالة خلافية كبيرة، وأعطى مبرراً للكثير من القوى السورية في المنطقة حيال أحقية رفع العلم من عدمه، وإن كانت كل القوى التي تحارب مع الأسد ترفع أعلام روسيا وإيران وحزب الله والقائمة تطول، وقوى سوريا الديمقراطية ترفع الأعلام الأمريكية وأحزابها السياسية فلماذا علينا نحن أن نقف موقف المعارض لرفع العلم التركي في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة بدعم تركي؟!
ولماذا علينا أيضاً أن نحسب الحسابات لحساسية تغيير أسماء المناطق في عفرين (ذات الغالبية الكردية) وتسميتها بأسماء من يعتبره السكان الأصليون للمدينة “عدواً محتلاً”، ناهيك عن التغيير الديموغرافي الذي يمارس اليوم في هذه المنطقة، في الوقت الذي قامت فيه قوات “قسد” الكردية نفسها بمثل هذا الفعل ورفعت الأعلام الأمريكية في الكثير من المناطق التي سيطرت عليها خلال الأعوام الماضية، وقامت بتغيير ديموغرافي يشبه ما فعلته قوات الأسد في المناطق السورية التي هجّرت أهلها.
كل التساؤلات تبدو محقة لولا أننا نعتبر أنفسنا أهل الثورة السورية التي تسعى لبناء وطن للجميع، والتي قامت لأسباب تتعلق بالظلم والقبضة الأمنية والحزب الواحد وتأليه الأشخاص وغياب التعددية السياسية، وفي جزء منها قامت ضد الطائفية التي جعلت من طائفة واحدة (العلوية) في زمن الأسد الأب والابن، تسيطر على كافة مفاصل ومراكز الدولة وتتحكم بمصيرها.
“علينا أن لا نمارس فعلياً ما قمنا بثورة ضده”، كيلا نبرر على الأقل للآخرين أفعالهم الإجرامية بحقنا، ولنبرز بصورة أوضح وجه الثورة الحقيقي، بأنها ثورة لكل السوريين وليست حكراً على طائفة معينة، وأن تتعدى بمشروعها القوميات والمناطقية التي باتت سمة أخرى ظهرت خلال الثورة بشكل جلي، وكانت أحد أهم الأسباب لضعف الثورة وتشتتها، والانتكاسات التي رافقتها.
يمكن القول، إن هذه التسميات الجديدة للساحات في عفرين استفزاز آخر يضاف إلى الاستفزازات الكثيرة خلال سنوات الثورة، وهو لا يقل أهمية عن الانتهاكات التي ارتكبتها بعض الفصائل المعارضة من سرقة وخطف وقتل والتي كانت محط انتقاد من أبناء الثورة الحقيقين، ليبقى السؤال الأهم اليوم “هل استطعنا فعلاً أن نكسر أصنامنا” لنبني حواراً يفضي إلى ثورة حقيقية تؤتي أكلها في بناء وطن، وطن لكل السوريين على اختلاف مشاربهم وطوائفهم وقومياتهم.