سانداً ظهره على جدار من تعب، علّ برودة ما تصل إلى قلبه المليء بالذاكرة، يجلس الرجل الخمسيني “أبو محمد” في بيت مضيفه، بعد أن خلّف وراءه مدينته درعا التي أمضى فيها 53 عاماً، مع بعض أصدقاء الرحلة والمكان. يجول بعينيه في السماء ويحاول جاهداً امتلاك زمام الحديث ليحكي ما يجول في خاطره، حاله كحال آلاف المهجرين “على قلق كأن الريح تحتي”. ينظر إلى الشمال رحلته القادمة للبحث عن مكان يأوي إليه كـ “أمر واقع” بينما قلبه يتجه إلى الجنوب، حيث كل حياته.
تتسع حدقتا الرجل وتأخذ لون تراب حوراني مائل للسواد، تغرورق عيناه بدمعة تأبى النزول، كـ عادة الرجال بملامحهم القاسية. هو لا يبكي ورشة “سحب الألمنيوم” وبساتينه وسيارته، التي تركها عند أحد معارفه في القنيطرة، وإنما يسيطر عليه وجع المكان، درعا، وقبور الشهداء التي خلّفها وراءه، والكرامة التي عاش يحملها على كتفيه طيلة حياته، ودفعته وأبناءه للانخراط في ركب الثورة منذ الصيحات الأولى، يقول أبو محمد.
يُعدّل أبو محمد من جلسته، عيون الجميع في المكان تنتظر أن تتلقف شيئاً من كلامه، “كنا مصممين ع الصمود ورافضين التهجير وكانم الشباب باصمين بالدم، بس.. لعنة الله على كل خاين”. يتصبب وجه أبو محمد عرقاً وكأنه استرجع شريط الذكريات أمام عينيه كيف دارت المعركة، وبدأ القصف الشدي،د ورحلة النزوح من مكان لآخر بين درعا والقنيطرة، ثم مفاوضات قصيرة ليجد نفسه اليوم في إدلب.
بملامح حادة يخبرنا أبو محمد أن الأمر كان محسوماً، فـ “إسرائيل” تريد حارساً أميناً على حدودها، ومن كـ “بشار الأسد” يصلح لهذه المهمة، فخيوط اللعبة تكشّفت، ولم يكن مصير مناطقنا أفضل حالاً من سابقتها، كان اليأس قد بدأ بالتسرب إلى صفوف الناس، ومع بدء المصالحات كان علينا أن نتخذ القرار، فاخترنا طريق “اللاعودة”، كما اخترناه وقت أول صرخة للحرية، ولا يشرفنا البقاء في أرضنا بوجود “الاحتلال الروسي ودميته الأسدية”، فما نفع بلاد وأرض لا كرامة لأهلها فيها، وكيف يطيق الإنسان رؤية قاتله يعبث على تراب أرضه ويتجول فيها وهو مكبل الأيدي سوى من التصفيق.
عشرون ساعة أمضتها القافلة التي حملت أبو محمد ومئات من أهالي المنطقة، رافقهم فيها شعور وحيد بالخوف من غدر “قليلي الذمة” كما وصفهم، مئات من الشتائم رشقها الجبناء الذين مرت القافلة بقراهم الموالية “هم عبيد ولن يعرفوا طعم الحرية يوماً”، إضافة لاستهداف الحافلات بالحجارة، كان على الجميع كظم غيظه “النساء والأطفال المرافقين لنا في الحافلة صعّبوا الأمر علينا، وخفنا من عمل وحشي كعادة الشبيحة، بس كنا جاهزين لأي أشي الشباب بواريدهم ملقمة وأصابعهم على الزناد”.
الطريق كان طويلاً، والهلال الأحمر المرافق للرحلة وزرع بعض الطعام والأدوية والماء على المهجّرين، الجميع كان يغصّ بالماء في تلك اللحظة التي لم يعد يستطيع الانسان فيها الالتفات إلى الوراء، هو الرحيل من أثقل قلوب الرجال، وفرض عليهم الصمت.
ساد صمت ثقيل في المكان، بدت ابتسامة مصطنعة على وجه الرجل كـ شقّ في جدار، إلى أن اخترق جدار الصمت هذا صوت الصغيرة مريم وهي تبكي باحثة عن جدها أبي محمد، تلقفها ليضعها على ذراعيه، “مريم حفيدة أبو محمد التي استشهد والدها في واحدة من المعارك، كانت حفيدته من ابنته التي زوجها خلال الثورة، ولم تكمل مع زوجها سوى شهرين ليأتيها نبأ استشهاده، تاركاً زوجة تحمل بطفلته مريم التي لم يتح لها أن ترى والدها”، سكت بكاء الصغيرة، أحد الحاضرين قطع حزن الجميع بكلماته ” حياكم الله ماقصرتوا وأنتوا اعملتوا اللي عليكم وأكثر”، لتسري لحظات من الفخر على معالم أبو محمد، فيضم حفيدته الصغيرة ويقبل رأسها .
يرتشف أبو محمد شفة من كوب الشاي الذي برد أمامه، يحاول التقاط أنفاسه، يوجّه حديثه إلى زوج ابنته الأخرى عن رغبته بشراء دراجة نارية للتنقل، كل الأحاديث توصلك إلى درعا “كان عنا خمس متورات.. شو بدنا نعمل” يطلق زفيراً حارقاً من قلبه وهو يحكي عن حواجز التفتيش الروسية التي كانت “متساهلة إلى أبعد الحدود”، “كانوا بدهم يطفشونا بأي شكل، ناس شالت كتير غراض، أدوات كهربائية وألواح طاقة وغيرها ….، يا ريت طالعنا غراضنا أحسن ما نتركها لهالكلاب”، أما شبيحة الأسد على الحواجز فقد كانوا كأحجار شطرنج، تحركهم روسيا وإيران كما تريد، بدت عيونهم حاقدة ولو ترك الأمر لمارسوا إجرامهم وقتلهم، ولكنهم كانوا بلا أنياب “عبيد مأمورين”. اكتفى أبو محمد وعائلته المؤلفة من ثمانية أشخاص ببعض الملابس وسلاحهم الخفيف ” خليت كل واحد من ولادي يشيل بارودة وجعبة، والله هذا ابني مؤيد البارودة كانت أطول منو”.
لحظة وصل مهجري القنيطرة إلى معبر مورك -انترنيت
رحلة أبو محمد خلت من المفاجآت التي طالت قوافل أخرى، قال إيهاب المحاميد أحد المهجرين من درعا، فالقافلة التي كان يستقلها إيهاب تعرضت للحصار من قبل “ميليشيات إيرانية”، بالقرب من مدينة حمص، دون معرفة سبب إيقافها وحصارها، استعد الجميع للاشتباك، والتفوا حول القافلة لحمايتها، طردت الميليشيات قوات الأسد من المكان، ورفضت الاستجابة للطلب الروسي بفك الحصار، إلّا أن التحرك الشعبي في الجنوب أرغمها على الانسحاب بعد سبع ساعات.
“الأمر يستحق المجازفة” قال إيهاب الذي اختار التهجير على البقاء والجلوس مع قاتل صديقه وأخيه وجاره، “كنت على يقين بأن قراري بالخروج من درعا هو القرار الصائب الذي يحافظ على كرامتي التي خرجت في هذه الثورة من أجلها”.
يتوزع أكثر من ثمانية آلاف مهجر من درعا والقنيطرة في الشمال السوري اليوم، بانتظار عائلات جديدة في طريقها للوصول، يراودهم حلم العودة، وتتقاسم وسادات نومهم صور مدنهم التي تركوها خلفهم. رن هاتف أبي محمد، على الطرف الآخر من الخط كان الرجل الذي ترك أبو محمد عنده سيارته يخبره أن الشبيحة عفشوا سيارته وأغراضه. ابتسم الرجل بعد أن اكتمل مشهد المعاناة الأخير وهو يخبرنا عن عزمه السفر غداً إلى الشمال (الحدود التركية) للبحث عن مكان جديد يغرس فيه جذوره، ليكمل دورة الحياة.