أذكر في مقابلة شاهدتها لأحد المعتقلين السوريين في تدمر، إبان حكم الأسد الأب، أنه أخبرنا أن المعتقلين شعروا بقرب العيد، حاولوا أن يحتفلوا خيالاً مع أطفالهم، صنعوا من بقايا الطعام الذي كان بحوزتهم أشياء مناسبة، حلقوا ذقونهم وارتدوا أفضل ما لديهم من أسمال بالية، وضعوا في صحن لديهم بعض “الملبس” كان حصة أحد المعتقلين من زيارة بعض أهله له. في اليوم الثاني بادروا السجان بعبارة “كل عام وأنت بخير”، ضحك السجان، ردّ عيدهم، ثم جلدهم بقوله “بس العيد خلص من زمان”.
يتوقف الزمن في المعتقلات السورية، لا يشعر الإنسان بمرور الوقت، هو فقط يعدّ وجبات التعذيب والإهانة والذلّ. أسأل نفسي ماذا كان سيحصل لو لم يجلدهم السجان بتلك الجملة المقصلة، وتركهم للحظة السعادة تلك.
ليس ذلك طبعاً من عادة جلادينا، فحجم التلذذ بعذابات المُعتقلين والسعادة التي تعتريهم مع كل ألم يسقطونه عليهم هو عيدهم الحقيقي، ليس على المعتقل أن يُفكر خارج جدران زنزانته الرطب، ليس له أن يحلم بلباس جديد لطفله، ولا أن يضم ضحكته وفرحه، هو العاقّ للوطن الذي عليه دائماً أن يدفع ثمن خيانته. في الوقت الذي ينهي فيه الجلاد حصة التعذيب، يرتدي ثيابه المدنية، يمرّ على السوق ليحمل لأطفاله عيدهم كأي بشري!
يمرّ في ذاكرتي ما كتبه محمد برّو أحد المعتقلين السابقين في سجن تدمر ” في هذا المساء، في ليلة العيد، يجلس آلاف المعتقلين في السجون السورية، تتزاحم عليهم الأحزان والآلام، ويكون الأسى في أعتى حالاته، أرواحهم ترنو إلى بيوتهم التي تحنّ إليهم وإلى الأهل والأصحاب، إلى ذلك الصباح الملون بألف بسمة وفرحة، إلى الغادين والرائحين، وإلى سكاكر الأطفال وضحكاتهم، وقد جرت العادة في المعتقلات السورية ومنذ 40 سنة أن يُظهر الجلادون أقذر ما عندهم من بأس وتعذيب إمعانا في الإذلال وتجريع المعتقلين ألماً فوق آلامهم، إلى هؤلاء جميعاً وإلى أهليهم الذين يذوقون ذات العذاب والحرمان، تحية من قلوبنا نحن العاجزون إلا عن تذكركم ورفع صوتنا لحريتكم، ولحريتنا معاً”
يخطر لي أن يناقش المعتقلون اليوم مباريات كأس العالم، هناك أسماء للاعبين جدد لن يعرفوها، سيتخيلّون تشكيلة الفريق الذي يشجعونه، سيختلفون على مونديالات قديمة ويطلقون العنان لتحليلات رياضية وتوقعات قادمة، ثمّ سيركنون في زوايا باردة لتمضية أوقاتهم في اجترار الألم ومحاولة الحياة. سيسخرون من أحلام يقظة راودتهم، هم الذين كتب عليهم أن يكونوا خارج الزمن. أطرد الفكرة من رأسي سريعاً فالأكيد أنهم لن يعرفوا أن عرساً كروياً جديداً يقام الآن.
تسيطر عليّ قصة المعتقل والعيد مجدّداً، أخلص إلى القول إن السجان سيخبرهم بذلك، سيقول لهم إن كأس العالم هذا العام يقام في روسيا، سيملأ السجن بالأعلام الروسية والإيرانية، سيمعن في تعذيبهم، سيخبرهم أن السعودية “الوهابية” خسرت بخمسة أهداف من “الدب الروسي”، ثم سيريهم على هاتفه صورة محمد بن سلمان مع بوتين. سيخبرهم أن إيران قتلت المغرب في اللحظات الأخيرة، وأن حظوظ تونس في التأهل إلى الدور الثاني ضعيفة، ربما سيخفي عنهم خسارة مصر، هناك مواقف رمادية يجب عدم الإفصاح عنها.
سيناقش وهو في حفلة تعذيبهم أن روسيا ستأخذ كأس العالم، وإن حدث وأخفقت فسيضاعف لهم العذاب، هو لا يكتفي كنحن بالسباب وإشعال سيجارة مع كل خسارة، أو أن يضرب الطاولة بيديه، هناك أجساد حيّة جاهزة لامتصاص غضبه. أتخيّل أن أمي ستدعو لروسيا بالفوز هذا العام لتخفف العذاب عن طفليها المعتقلين.
أخرجني مما أنا فيه إشعار على الفيس بوك لصديق نقل عن الكاتب زياد بركات ” العيد بالنسبة لي عبء، ربما أكون متعسفاً وسوداوياً لكنه كذلك، ولولا أن عليك أن تتقن دور الأب الطيب لطالبت بإلغاء الأعياد، لا لأن ثمة قتلى في المنطقة بالآلاف يحدقون فينا من قبورهم إذا وجدوها ولكن لأن العيد نفسه في ثقافتنا لا يتقن دوره مثل ذلك الأب الذي يكد لإتقان دوره: يفعل خلاف ما هو مأمول منه، فبدل أن يشيع الفرح فإنه يلح في استحضار أسباب الحزن. مئات الآلاف في هذه المنطقة المنكوبة من العالم يبدؤون عيدهم بزيارة قبور أمواتهم. مئات الآلاف الآخرون يجهدون للتحايل على فقرهم أمام أعين أطفالهم. من تبقى يليق به عيد يتلقى فيه العرب هزيمتين كرويتين في الدقائق الأخيرة، ومن المفارقات الدالة أن تكون واحدة منهما بتسجيل اللاعب هدفاً في مرمى فريقه.
هذا نحن نتقافز فرحاً لأننا خرجنا بهزيمة مشرفة، ونحزن لأننا سجلنا هدفاً في مرمانا، نحن الذين نحتفل بالأعياد مهزومين وبلهاء وأعداء أنفسنا، نرقص لنقول للعالم أن الهزيمة كانت أقل والحزن هذه المرة أخف. نفعل ذلك كل مرة، المرة تلو الأخرى يا إلهي!!!”