فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

بائع الخبز السري دمشق 2012 - تصوير: مظفر سلمان

الخوف وحاكم سوريا الأبدي

الخوف وحاكم سوريا الأبدي

ندّت مني ضحكة عن سؤال تهكمي جال في رأسي حيال الأمر، جفلت الفتاة أمامي تنتظر ردي، وتفسير عن سبب تصرفي، وأنا ألتمس ترجمة من العم Google Translate لأخبرها أني (مالي متعودة شوف رئيس جمهورية!) أومأتُ خجلاً بالموافقة، تهلل وجهها وكأنها تقول بلغة المصريين (يا ألف نهار أبيض)، دونت اسمي بعبارات شكر وغادرت.

فغداً أنقرة على موعد مع مؤتمر خطابي لرئيس البلاد، التي قررت خوض انتخابات برلمانية مبكرة.

“ليش الرئيس ما بيموت؟”

كلما ترددت في دخول متجر للألبسة يباغتني أبي بجملته (فوتي تفرجي…الفرجة ببلاش)، وهل ينطبق الأمر على رؤية رئيس جمهورية؟ هل الرؤساء يشبهوننا؟ يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق؟ يمرضون ويموتون؟

غبطتُ الفتاة على احتفائها الذي أعادني 18 عاماً، كان يوماً صيفياً من العام 2000، حينها طل علينا مروان شيخو من قناة (عذاب 1) كما اعتدت تسمية الفضائية السورية _فمطالعة برامجها بمثابة عذاب لي _ يروي خبر وفاة حافظ الأسد. كل ما أذكره غبطة أخي، مسكين خائف متعطش إلى يوم إضافي للدراسة، فجاء العون الإلهي بوفاة المذكور قبيل أول أيام امتحان الثانوية العامة، وعليه أرجئت امتحانات (البكالوريا) التي أحالت طلابها إلى (دودة كتب) تدخلهم في هذيان مالي عن تكلفة الدراسة، باستثناء ثلة ممن ضاقت _أو ستضيق_ عليهم جامعات الوطن الحبيب فأهلاً بجامعات بلاد كارل ماركس، مع كل شهادة “مدفوع حقها” تحصل على كلمة “رفيق” مجاناً.

كنت آنذاك طفلة أقضي إجازتي الصيفية في حماة، أذكر حينها أن جدتي الشاهدة على أحداث حماة 1982 صعقت من الخبر، وكأنها تقول (كيف طال الموت ذاك المتجبر؟) سألت بسذاجة طفلة (ليش الرئيس ما بيموت؟) فكانت راحة جدتي المجعدة قد أكلت وجهي تقول (اسكتي)!

لا بأس

حان موعد المغادرة، تجمعن في بهو السكن، توشحن بأعلام حمراء، بعضهن وضعن العلم كـ(بروش) على الياقات، دنوت من صديقتي أخبرها معتذرة عن الحضور، فكان جوابها “لا بأس”… لا أذكر يوماً أني اقتنيت علم سوريا، أو ميدالية تحمل رمزاً وطنيا ما، حتى خلت أن انتمائي الوطني معلول، لكني رضعت من حليب (هي البلد مو لإلنا!)، فما عساي سوى توفير ثمن العَلَم بربطة خبز أو اثنتين لا ضير.

حالفني سوء الطالع الذي ما قرأته أبداً أن أعيش في دمشق على خط التماس، تماماً كحال القاطنين بين جبل محسن وباب التبانة في لبنان، إذ كنت وعائلتي على موعد مفتوح مع اشتباكات وقصف وتلاسن، كلا الطرفين يسمعان بعضهما البعض، وكل منهما يطلب من الآخر الاستسلام و(العودة إلى حضن وطن الآخر) والأرض واحدة! وكأني على موعد مع إحدى حلقات مسلسل (باب الحارة) لكن (دون تبويس شوارب بعض)، ينتهي المشهد الأخير لنستأنف ماتبقى من حياتنا بين أربع حيطان اخترقتها رصاصات الطرفين…(لابأس).

(اسكتي!)

أصوات (الطبل والزمر) تصدح من مكبرات الصوت، والخيم الانتخابية للمشرح الواحد (مولعة)، والكهرباء في معظم المنازل السورية تسجل غياباً (مشان الخيم الانتخابية والحفلات) حينها كنت أتحضر لاختبار الثانوية، في 2007، تذمرت حتى قلت (على شو انتخبناه إزا مو قادر يوصل لنا الكهربا؟!) تكاثرت الأيادي هذه المرة على فاهي تكتم (كفراً) نطقت به، وتضحك مني في آن معاً، كانت هي المرة الثانية التي يسكتني أحد بالكتم بعد جدتي.

تكرر المشهد في 2014 أذكر حينها أن الحواجز المتمرسة على الطريق المؤدي إلى منزلي تتفحص إصبعي المصبوغ بحبر أزرق، أبصم كغيري على تجديد بيعة في دولة كل ما في الأمر أني أقيم فيها.

لا أذكر أني رأيت حافظ أو ابنه في مناسبة شعبية، لكن طالعت أقوالهم في كتب القومية وعلى جدران الفروع الحزبية امتلأ صدري حينها بالقومية المزيفة رأيت سوريا بلداً مقاوماً على الجدران وبين الكتب، في حين جدتي التي اسكتتني بقبضتها تروي على مسامعي قصص تنتهي معظمها بجملة (رشوا الكل) أي قتلوا جميع من كان، مع ذلك كنت أغط في نومي فلا وجود لليلى ولا ذئب يلاحقها، فذئاب الإنس أكثر شراسة، مع ذلك لم أعجب من قصص جدتي سوى من تصرف جدتي نفسها، هي من تروي لي ما حصل، وتسكتني بآن معاً، ماذا تريد أن تقول؟

(منحبك)!

كانت نظرتي للرئيس آنذاك “خدمية” ماء وكهرباء وإنترنت، جامعات ومستشفيات و(ناس شبعانة اللحم)، حتى اكتشفت أن نظرة الأسد كانت مقاربة تماماً لنظرتي الساذجة عن ما يجب أن يكون عليه رئيس الجمهورية حين خرجت مظاهرات درعا، حينها روج إعلام النظام أن مطالب الشعب خدمية! بقي ينسج على منوال الخدمات على مدى سبع سنين حتى تحقق ذلك، ليس من الصعب على الناظر رؤية فتيات يحملن خبزاً يدعين أنه (تازة) لبيعه ضعفاً عن الفرن المجاور، أو طفل يحمل (شوالاً) من شيبس الأطفال ضمن جولات عمله يقف على أحد الحواجز المتمركزة في أطراف العاصمة يجادله عسكري ويمضي، لكن بعض الخدمات باتت مصيدة أمنية كانت إحداها طلب تأمين المازوت، اصطففت مع جموع الناس جلهم طاعنون في السن _ كحال البلاد اليوم _ تلتفت إحداهن إلي بوجهٍ اعتادته صدمات الحرب تسألني عن ورقة تثبت أن الوالد أو الزوج المفقود أو الأخ المعتقل لازال حياً لاحتساب نسبتهم من المازوت، لم أكترث لمستجدات المطالب السريعة التي ما إن تم تعميمها يأتي أمرٌ آخر يلغي سابقه (حسب الأوامر)، حتى وصلت إلى الموظفة المستشقرة تسألني بشك غبي، اعتقدت أنها وجدت صيداً ثميناً (وين أبوك؟ ليه ما يجي هو يعبي الطلب؟) أذكر ملامحها الحادة، وأسأل نفسي (قسيمة تعبئة المازوت لأي فرع تتبع؟)، كيف أجرؤ على تكذيب إعلام النظام إذن؟ مطالب الشعب السوري وبعد سبع سنين خدمية!

عليّ منذ اليوم أن أتابع سير الأحداث السياسية في الداخل التركي، والتشرف بمعرفة الأحزاب المؤيدة للوجود السوري على أراضيهم، والتهليل لأي ناخب يدلي بصوته للحزب الداعم لوجودي _أنا السورية_ أتابع أخبار السوريين فيها، مستجدات الإقامة ورسوم إضافية للحصول على الكيملك، وأبقى في حالة استنفار مؤقتة (حاطة إيدي على قلبي) حتى تنتهي جولة المصير تلك.

وعليه، سألت صديقتي بعيد عودتها عن ما حصل وهل رأت (الطيب) بالفعل؟ عجبت من سؤالي عاجلتها في التذكير بجملتي (مالي متعودة شوف رئيس جمهورية).