الحصار الخانق وويلاته التي عاشها أهل الغوطة منذ خمس سنوات، لم تُفلح في كسر عزيمة أهلها الذين راهنوا على البقاء والانتصار، وأوجعوا الأسد وقواته في قلب العاصمة دمشق، حتى باتت جوبر وحرستا ودوما وغيرها من المناطق أساطير من الصمود، وحيكت فيهم القصص والحكايات، وكابوساً على قوات النظام يقض مضجعهم.
لمحة عامة
باكراً استيقظت الغوطة الشرقية على وقع الثورة السورية لتشارك في كافة مفاصلها من خلال مظاهرات عمت المدن والبلدات، كان لها الدور الأكبر في تشكيل فصائل عسكرية من أهالي الغوطة أنفسهم، على شكل كتائب أو سرايا كـ “سرية الإسلام أيلول 2011 ـ ولواء البراء آب 2012″، شكلت النواة الحقيقة فيما بعد لتشكيل جيش الإسلام وفيلق الرحمن أكبر فصائل الغوطة العسكرية، والمسيطران على معظم مساحتها، بالإضافة إلى “هيئة تحرير الشام وأحرار الشام وجيش الفسطاط”.
“خمسة أشهر كانت كفيلة بتحرير معظم الغوطة الشرقية”، أيام وصفها حسام دركزلي (مقاتل في الغوطة منذ سبع سنوات) بـ “العظيمة”، إذ كان هم الفصائل جميعها الوقوف في وجه نظام الأسد وتحرير المنطقة، رغم الخلافات التي كانت تنشأ بين هذه الفصائل إلّا أنها كانت متفقة فيما بينها أن تحرير دمشق من قوات الأسد هو الهدف الأهم، والدافع الأكبر لوجودها.
شهد عام 2013 بداية تشكل جيش الإسلام في مدينة دوما وما حولها، والذي يضم أكثر من عشرة آلاف مقاتل، وفيلق الرحمن في القطاع الأوسط الذي يضم مدناً عدة أبرزها حموريه وعربين وأجزاء من جوبر ويضم في صفوفه ما يقارب تسعة آلاف مقاتل.
يقول دركزلي “إن الفصائل بدأت بالتراجع منذ عام 2013، وبات الاقتتال والاحتراب فيما بينها سمة عامة، وبدأ الأسد بقضم الكثير من مناطقها تدريجياً”، لتبدأ مرحلة الحصار الخانق على الغوطة بقطاعاتها الثلاثة، قبل إطلاق حرب الإبادة الأخيرة التي انتهت بتهجير معظم أهلها قسرياً، إما إلى مراكز إيواء داخل دمشق أو إلى مناطق المعارضة في الشمال السوري (إدلب وريف حلب الشرقي)، ضمن اتفاقيات منفردة جرت بين الفصائل وروسيا منذ آذار 2018.
فصائل وتجار
أثارت أعمال الفصائل واقتتالها فيما بينها وتضييقها على الحاضنة الشعبية في الغوطة حفيظة وغضب الأهالي، الذين حمّلوا قادة الفصائل المسؤولية الكبرى في زيادة ويلات الحصار عليهم، فـ “جميع الفصائل لم تسمع مناشدات الأهالي”، على حد قول أبو هيثم ليلى من حموريه. وتحتاج العائلة المكونة من خمسة أفراد إلى “15000 ليرة” للبقاء على قيد الحياة، وتأمين “كاسة شاي” لأطفالك بات حلماً هناك، مع انعدام الكهرباء والوقود والغذاء وفرص العمل والتعليم، في الوقت الذي “كانت فئة من قادة الفصائل وأعوانهم وتجار المدينة يعيشون في رغد وبحبوحة”.
ويروي أبو هيثم قصة “المنفوش” وهو صلة الوصل بين قادة الفصائل والنظام، يُبرم الصفقات التي تتضمن كل ما تريد من المواد الغذائية والتموينية والوقود، ويُمررها عبر الأنفاق بمساعدة الفصائل الموجودة (التي كانت شريكته في مص دم أهل الغوطة)، الذين كان عليهم أن يدفعوا الثمن بعد أن فرضوا مبلغ “2000ليرة” على كل كيلو غرام من هذه المواد كزيادة في السعر، ولم يكن هناك خيار لنا سوى أن ندفع، فآخر صفقة تمت قبل التهجير بفترة قصيرة قام المنفوش بإدخال 500 طن من المواد الغذائية، أي ما يعادل “مليار ليرة سورية”، كان علينا نحن أهل الغوطة أن ندفعها لنبقى على قيد الحياة.
استنفد الحصار كل مدخرات الأهالي، لجأوا إلى بيع بيوتهم وأراضيهم وبقايا المصاغ الذهبي الذي كان لنسائهم، “لم يرحمنا أحد، فقادة الفصائل تحولوا إلى تجار، والتجار استطاعوا شراء الفصائل” يقول حسام دركزلي، الذي رأى أن تلك المعادلة أفرغت الثورة من محتواها، “كيف يمكن للمقاتل أن يرابط على الجبهات وعائلته في العراء بلا طعام” يكمل دركزلي، فإيجار البيوت مرتفعة وخاصة بعد أن فُرض على كثير من العائلات ترك قراهم في الخطوط الأولى والتوجه نحو مناطق أكثر أمناً.
ومع اقتتال الفصائل فيما بينها وفي كثير من الأحيان قُطّعت أوصال هذه المناطق، فهناك من لم يرَ أهله لأعوام، فقط لأنهم يعيشون في منطقة تقع تحت حكم فصيل آخر.
في الأقبية.. هناك من يحسد الأموات
على “عمق يزيد عن عشرة أمتار وبعرض لا يتجاوز 70سم”، كان آلاف من الناس يعيشون حياتهم هناك، حين غدا الضوء نعمة مفقودة، والهواء ضالة الجميع. “لم نرَ سطح الأرض لأيام، وكل طعامنا كان رغيفي خبز مصنوع من الشعير”. هي ليست زنزانات تحت الأرض بناها نظام جائر، فلا بد إذن من ثقوب للضوء فيها، حيث يمارس المعتقل حقّه في النوم بعد حفلات التعذيب، والطعام المرمي بقصعة مليئة بالتراب والحشرات، وهي ليست أيضاً جزء من رواية أو مشهداً من فيلم سينمائي تمارس فيه الكاميرا ذلك الإيهام البصري بالكثير من أدوات التجميل والتقنيات الحديثة، هي تلك الحقيقة القابعة في أنفاق حموريه في الغوطة الشرقية، التي تشابهت (وإن اختلفت بسنتيمترات قليلة) غيرها من المناطق المجاورة الثائرة.
“إن أردت أن تمشي في تلك الأنفاق، فعليك أن تدوس على مئات الأيدي والأرجل لتصل إلى نهايته”، يقول أبو هيثم ليلى من حموريه “لم يكن هناك كهرباء، ضوء القداحة الصغير هو دليلنا في المكان الذي لا نعرف له نهاية”.
على سطح الأرض كانت قوات الأسد وحلفاؤها تحرق كل شيء، استخدمت منذ بداية الحملة الأخيرة كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً (النابالم –الفوسفور الأبيض –الغازات السامة) أما البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية والراجمات فكانت رفاهية تستخدم على مدار الوقت.
خمسة عشر يوماً أمضتها أم محمد (أم لأربعة أطفال يتامى) في نفق في حموريه، كل ما كان يشغل تفكيرها أن لا يموت أطفالها اختناقاً من الغازات السامة، تمنت لو أن صاروخاً يصيبهم جميعاً (إن كان لا بد من الموت)، الموت جوعاً كان الهاجس الآخر لأم محمد وهو ما دفع الكثير من العائلات وأم محمد للمجازفة بالخروج من النفق، والتوجه إلى بيوتهم علّهم يحظون ببعض الطعام يحضرونه لأطفالهم. تحتال الأمهات لتأمين قوت يوم، عليها أولاً أن تطحن الشعير (إن وجد)، ثم تبدأ رحلة البحث عن بقايا الملابس القديمة والاسفنج وبعض الحطب لإيقاد نار لخبز الشعير، “بعض النساء كسرت غرف نومهن وجلوسهن، أخريات استعنّ بملابس أبنائهن وبقايا الأغطية، والأدوات البلاستيكية” تقول أم محمد.
المغامرة الكبرى كانت في أن ترى طائرات الاستطلاع الدخان المتصاعد من أحد المنازل، لتبدأ الطائرات باستهدافه، “كانت صناعة الخبز إنجازاً، وكان على النساء أن يصنعن الحياة بأرواحهن”.
لم تحفر تلك الأنفاق على عجل، بل كانت حصيلة تعب وجهد كبيرين، يقول أبو منذر من النشابية في الغوطة الشرقية، فبعض المؤسسات والداعمين قاموا بتجهيز الأقبية بنسبة 40%، بينما تكفل السكان بإكمال ما تبقى من عمليات حفر وتجهيز، كان على السكان إيصال تلك الأنفاق ببعضها بحيث يصبح لكل نفق أكثر من مخرج، فالطائرات التي كانت تستهدف الأنفاق والمباني المحيطة كانت تردم الكثير من أبواب هذه الأنفاق، وإن لم تكن هناك مخارج أخرى فسيموت الناس تحت الردم.
تجمّع في هذه الأقبية أكثر من 1000 شخص أحياناً في كل قبو، ومع بدء الحملة الأخيرة لقوات الأسد، ونزوح بعض أهالي الغوطة إلى مناطق داخلية أخرى، كانت الأعداد تتزايد في هذه الأقبية حتى ضاقت بساكنيها، زاد على ذلك انعدام كل فرص الحياة، الطعام والماء والكهرباء والأدوية والتواصل مع العالم الخارجي من خلال وسائل الاتصال، كل ذلك فُقد في الأيام الأخيرة، وكان البقاء على قيد الحياة مسألة وقت ليس إلّا.
كان على أم محمد أن تحسم أمرها بالخروج من حموريه مع تقدم نظام الأسد، وما أشيع حول بدء دخوله إلى البلدة، حملت أطفالها، خرجت من النفق ليلاً تحاول الوصول إلى عين ترما، القذائف كانت تسقط حولها من كل جانب، الطريق الذي ضاعت معالمه لكثرة الأبنية المدمرة أرغمها على الوقوف مرات كثيرة، لم يسعفها عتم الليل لإكمال طريقها، مشت أحياناً وركضت أحياناً، صرخت في الليل دون مجيب، سقطت وتعثرت بالركام المنتشر في الطريق، و”حين وصلت وجدت نفسها وأطفالها حفاة بلا أحذية”.
في سقبا كان الأمر أكثر إيلاماً، يقول حسام دركزلي (أحد مقاتلي الغوطة من المروج) “بات علينا أن ندفع إيجار الأقبية والأنفاق، ونحن نرابط على الجبهات”.